الخطاب الإسلامي السائد لا يتناسبُ مع طبيعة المعارف والتحديات العصريَّة – بل هو خطاب خارج التاريخ, ينشدُ كل الحلول لمشاكل الحاضر و المستقبل في الماضي…
بقلم: العفيف الأخضر
كل إصلاح حقيقي هو إعادة تأسيس، هو ابتكار لنموذج جديد من العقلانية الدينية التي لا تعترف من الدين خاصة في المعاملات إلا بما يقبله العقل. كل إصلاح ديني يمر بقتلٍ رمزي للأب. في موضوعنا يمر بالقطيعة مع لامعقول التراث، وبحلّ مشكلة تنفيذ الجديد بالأدوات القديمة. كلا العمليتين تتطلّبان إصلاح التعليم والإعلام والخطاب الديني جُملةً. لا، بل أن إصلاح الإسلام لن يتحقّق إلاّ بالإنتقال من مدرسة اللامعقول الديني المُستمرّة منذ قرون إلى مدرسة المعقول الديني المنشودة الوحيدة المؤهّلة لعقلنة التعليم والخطاب الديني بما فيه الخطاب الديني الإعلامي.
الإنتقال من مدرسة اللامعقول الديني إلى مدرسة المعقول الديني يعني الإنتقال من القراءة الحَرفيّة للقرآن، خاصة المدني السائدة إلى اليوم تقريبا في كل مكان من أرض الإسلام، إلى القراءات الأخرى المنافسة لها والتي همّشتها أو كفّرتها كالقراءة التأويليّة والمقاصديّة والرمزيّة والتاريخيّة التي مارسها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ أي نسخ الآيات التي لم تعد متكيّفة مع مستجدّات التاريخ. واصل الخلفاء الراشدون وبعض الفقهاء هذه القراءة الناسخة للأحكام التي لم تعد تستجيب للواقع المعيش. هذه القراءة الأولى للنّص المُؤسِّس التي مارسها الراشدون ضرورية لنا جدّا اليوم. وعلى مدرسة المعقول الديني أن تستعيدها. وهذا ما دشّنه اليوم كلٌّ من جمال البنا وحسن الترابي ومحمد الطالبي وغالب بن الشيخ وأنا نفسي. للتاريخ، أوّل من طالب بالعودة إلى القراءة التاريخية لنسخ أحكام الآيات المتقادمة هو المأسوف على فقده محمد عابد الجابري سنة 1988.
اهمية اللجوء إلى علوم الأديان المعاصرة التي دُرست بها الأديان الأخرى
كان ينبغي أن تُضيف الأديان الأخرى بما فيها الإسلام وخاصّة الظاهرة القرآنية التي درسها كثير من المستشرقين وحتّى المسلمون أنفسهم مثل محمد أركون في كتابه “قراءات القرآن” ومحمد علي أمير معزي الذي أشرف على إصدار معجم القرآن بالفرنسية الصادر سنة 2007 وكتب له مقدّمة مهمّة عن القرآن، والذي تُرجم إلى عدد من اللغات إلاّ لغة القرآن. وكما قال شوقي (أحرام على بلابله الدّوح/حلال للطّير من كل جنس).
عندما قلت الإنتقال من القراءة الحَرفيّة إلى القراءات الأخرى أعني على ضوء علوم الأديان المعاصرة لأن علوم الدين الإسلامية تجاوزها التطوّر العلمي ولم تعد قادرة على التجاوب مع المتطلبات الحديثة لدراسة النّصين الإسلاميين المُؤسِّسين، القرآن والحديث، ولا على دراسة مُجمل التراث الإسلامي الذي مازال بمنأى عن التحليل والنقد العلميّيْن اللذين طُبّقا على تراث الأديان الأخرى وخاصة اليهودية والمسيحية كما هو معروف.
لماذا فعلت اليابان ما عجزنا عنه؟ لأنها بلا تراث أسلاف يردعها – مثلنا – عن تقليد الآخر “الكافر” كما هي حالنا نحن
“التحديث من الداخل” غير منتج Contre-productif وبصدد إصلاح الإسلام مثلا هو إستحالة إيبستيمولوجية. علوم الأديان الحديثة تكونت في مناخ الثورات العلمية والفلسفية والصناعية الحديثة. وليس لها أشباه ونظائر في تاريخ العلوم لا عندنا ولا عند غيرنا من أمم الجنوب. وهذه العلوم ليست نبتة أو حيوانا يمكن تدجينه بتكييفه مع البيئة الجديدة. هي مفاهيم ونظريات وقوانين علمية دقيقة غالبا، تدجينها مرادف لإجهاضها. إذن هي غير قابلة للتدجين.
الخلفية الأيديولوجية لشعار التحديث أو التجديد من الداخل غير مقبولة علميا أيضا. فهي في الواقع تعبير عن “الخصوصية” العربية الإسلامية الشهيرة : نحن أمة إستثنائية لا يصلح لها ما يصلح لغيرها من الأمم التي لم يكرمها الله بالإسلام… الله كلمنا لآخر مرة في التاريخ فأعطانا الدين الحق ولغتنا هي لغة أهل الجنة. وهما لا يقبلان الإصلاح إلا إذا كان من الداخل، وفي قول آخر، هما لا يحتاجان لأي إصلاح أصلا.
مواضيع قد تهمك
نحن هنا أمام منطق عبادة الأسلاف النرجسي الإقصائي، السائد لدى الشعوب البدائية أو ذات الذهنية البدائية، والذي آن لنا أن نخرج منه إلى منطق الشعوب الحديثة أو ذات الذهنيات الحديثة التي لا ترى مانعا من استعارة العلوم الحديثة دونما تشويه لمنطقها الخاص وصرامتها العلمية برغبات عصابية. شعار التحديث من الداخل هو أحد أعراض عقاب الذات autopunition المتواصل منذ قرنين بتكرار التجارب الفاشلة. لا توجد أمة في العالم حدثت نفسها من الداخل. اليابان، منذ حكومة الميجي في القرن التاسع عشر، دشنت دخولها للحداثة باستعارة الحداثة الأوروبية فتبنت دستور بلجيكا وقوانينها الوضعية، وأدخل إمبراطورها المعبود الشوكة للأكل بدل العيدان اليابانية التقليدية، وأدخل الموسيقى الكلاسيكية بدل الموسيقى المحلية.
لماذا فعلت اليابان ما عجزنا عنه؟ لأنها بلا تراث أسلاف يردعها – مثلنا – عن تقليد الآخر “الكافر” كما هي حالنا نحن. لكن فكر بعض نخبنا السحري يفترض أن التحديث من الداخل ممكن بالنسبة لنا بفضل معجزة مّا؛ جاهلا أو متجاهلا أن الحداثة سوسيولوجيا هي كل لا يتجزأ. إما أن تأخذه أو تتركه. وقد تركناه لسوء حظنا طويلا . فلماذا لا نحاول ولو لمرة واحدة أخذه عسى ولعل يساعدنا على الخروج من كابوس التأخر التاريخي الذي أسقطنا في الهذيان شعوبا ونخبا وجعل جرحنا النرجسي، أي شعورنا بالخصاء والإذلال والدونية بعرض وعمق النيل والسين معا.
الصورة الرئيسية: اليابان خالية من “المحرمات الهستيرية”: حفلة موسيقية للموسيقى الأوروبية من الرسام يوشو تشيكانوبو (1838-1912)