لا تعوزنا الأدلة والشواهد، للزعم بأن الأزمة التي يعيشها المجتمع المسلم، إنما هي أزمة فكرية في المقام الأول. أبسط تجلِّياتها، أن المجتمعات المسلمة، من طنجة إلى جاكرتا، تتشارك رؤىً، وطرائق تفكير، متشابهة، على الرغم من الاختلافات الهائلة في الأرضيات الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية والعرقية بينها.

بقلم: جمال عبد الرحيم عربي


من أبرز سمات هذه الأزمة، والشواهد الدالة على خلفيتها الفكرية:

  • نزوع الفرد المسلم، بشكل عام، للنظر إلى، والتعامل مع، القضايا المعقدة بشكل سطحي، وإضفاء طابع ديني على جوانب حياته المختلفة. يمكن تأكيد ذلك، بدون صعوبة، عند النظر للمقولات والشعارات التي يطرحها الفقهاء والقادة الروحيين، بل حتى الكثير من السياسيين المسلمين، حيث نجدها لا تخرج عن الشعارات المُبَسَّطة للغاية من شاكلة: “الإسلام هو الحل”، “لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”، و”تطبيق شرع الله”، إلخ.  
  • الإذعان، في غالب الأحوال، لنظرية المؤامرة الدائمة. وإن كانت هذه النظرية منتشرة وسط عدد محدود من الساسة والمفكرين بالغرب والشرق، إلا أنها تسيطر بدرجة كبيرة على العقل الجمعي المسلم – ونعني به مجموعة الأفكار والمناهج التي يتعامل بها هذا العقل مع الحقائق والأحداث – الذي لا يرى في معظم ما يمور في العالم، من أحداث، غير أنها مؤامرات يهودية وخلافه.
  • سيطرة النزعة القدرية، الناتجة عن نفوذ وتجذُّر المدرسة الجبرية، تلك التي تعتبر أن أفعال الناس وأحداث الحياة مقررة سلفاً من قِبَل الخالق، وليس للمسلم غير القبول بها، والاذعان لها. لقد أدت سيطرة هذه النزعة إلى أن يغْلُب على العقل المسلم صفة الكسل في توليد وتبني الأفكار الجديدة، والنفي الضمني لقانون السبب والنتيجة.   
  • التعلق المَرَضِي بماضي الدولة الإسلامية الأولى والنظر إليه وكأنه قابل للتكرار رغم اختلاف المكان والزمان. ليس ذلك فحسب، بل أن العقل الجمعي المسلم يتعامل بزهو بالغ مع ذلك الماضي، ويشتط في إضفاء صفات غير حقيقية وغير منطقية على شخوصه وأحداثه، متجاوزاً في ذلك حتى الحقائق التي تزخر بها كتب التاريخ الإسلامي، التي صدرت في ذلك الزمان نفسه، والتي تحتشد بمئات الشواهد الدالة على خطل تلك النظرة.  
  • جنوح الخطاب السياسي والفكري لاستدرار التعاطف، وتهييج المشاعر، وقطع الطريق على مناهج وأساليب التفكير العقلاني. لذا لم يكن غريباً أن يخرج ملايين المسلمين، في جميع أرجاء المعمورة، للاحتجاج على رسوم مسيئة للنبي محمد (ص) في صحيفة أوروبية مغمورة، استجابة لخطب أئمة المساجد، بينما تضرب الهجمات الإرهابية المنسوبة للمسلمين مئات المواقع في العالم، مؤدية بحيوات آلاف الأبرياء، ومن ضمنهم مسلمين أتقياء، بدون أن تخرج مسيرة واحدة في كل العالم الإسلامي، لإدانة أولئك الإرهابيين الذين يقتلون الناس باسم الإسلام.
  • التواضع الشديد في مؤشرات الأداء الكمي والنوعي التي تعكس إنجازات المجتمع المسلم في المجالات المختلفة (الصحة، التعليم، دخل الفرد، الرياضة، العلم، الثقافة، الفن، الأدب) قياساً بالمجتمعات الأخرى. 

ما أشرنا إليه أعلاه يوضح بعض السمات الوثيقة الصلة بالعقل الجمعي المسلم، بيد أن أخطرها في رأينا، ذلك الاعتقاد العميق لدى الفرد المسلم، بوجود منظومة متكاملة من التشريعات الثابتة (الشريعة) لا تتأثر بتحولات الزمان والمكان، ولديها القدرة على إدارة اي مجتمع بشري والاستجابة لتحدياته. هذا النزوع مرتبط بالبنية الفكرية والثقافية للمجتمعات المسلمة، وهي بنية متشابهة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. قوام هذه البنية الفكرية الثقافية الاعتقاد والتسليم بأن المسلم مطالب، كجزء من متطلبات إيمانه، بأن يُحْكَم مجتمعه بتلك التشريعات، وبأن يَعتَبِر الدولة العربية الاسلامية الأولى مرجعيته الأساسية في بناء وإدارة دولته الحالية. يمثِّل هذا الاعتقاد أمراً إلهياً واجب الإتباع لدى المسلم، وليس مجرد خيار، وذلك تسليماً بأحكام مجموعة من النصوص بعد انتزاعها عن سياقاتها.

يستمد هذا الاعتقاد حجيته من مجموعة من النصوص، مثالاً لها الآيات القرآنية:

“ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”،

“ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”،

وغيرها كثير. إنه، ولأسباب أيديولوجية محضة، حكَّم الفقهاء والمفسرون في تفسيرهم لتلك النصوص، إحدى قواعدهم، وهي قاعدة: “العبرة بعموم النص وليس خصوص السبب” لأجل تثبيت مفهوم أن الإسلام دين ودولة، متجاوزين في ذلك قواعد أخرى وضعوها هم بأنفسهم، مثل قول ابن تيمية، مثلاً، بأن:

يُنْظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه، وما يبين معناه من القرائن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع، في باب فهم الكتاب والسنة [1]

وأيضاً:

ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فـإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب [2]

في ذات المعنى يصرح ابن القيم الجوزية بأن:

الألفاظ لم تقصد لذواتها وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان، عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإيماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له [3]

إن النصوص التي يحتجون بها على أن الإسلام “دين ودولة”، وأن هناك أحكاماً خالدة لإدارة حياة الناس (الشريعة)؛ هذه النصوص بعيدة كثيراً، في دلالتها، عما يزعمونه، إذا تم إخضاعها للتفسير وفقاً لسياق النزول، بدلاً عن استخدام قاعدة “العبرة بعموم النص”! حيث، كمثال، فإن كل الآيات الواردة بالقرآن، وما أكثرها، التي تشير لمصطلح “الحكم”، إنما جاءت في سياق التقاضي بين الخصوم، ولا علاقة لها بحكم الناس، في بعده السياسي، وهكذا.   

الجدير بالذكر أنهم يتجاوزون قواعدهم بكل بساطة، عندما تحاصرهم تحديات عملية أقوى من قدرة تلك القواعد على مجابهتها.

كمثال على ذلك حلّل الفقهاء الضرائب والجمارك وغيرها من الاستقطاعات المالية التي تقوم بها الدولة الحديثة، رغم وجود نصوص دينية تُحَرِّم ذلك، متجاوزين في ذلك قاعدتهم الراسخة: “لا اجتهاد فيما فيه نص”، وغير ذلك كثير.

من ضمن المُسَلَّمات التي فُرِض على العقل الجمعي المسلم العمل وفقها، اعتبار الحديث النبوي مُكَمِّلاً للقرآن، بل امتداداً له، على الرغم من أن هنالك الكثير من النصوص تمنع ذلك بوضوح! مثل الآية القرآنية: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ”، أو الأحاديث النبوية المُتَّفق على صحتها وفقاً لقواعد علم الحديث، كقول النبي:

“إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك”،

أو

“إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أن بشر”،

أو

“إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت ذكروني”.

بل أن النبي (ص) نفسه قد حَرَّم بوضوح أن تُكتب أحاديثه، حيث استنكر ذلك قائلاً:

“لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه”،

وحديث آخر، عبر فيه عن غضبه عندما علم بأن بعض أصحابه قد شرعوا في تدوين أقواله، حيث قال:

“أكتاب غير كتاب الله؟ أمحضوا كتاب الله أو خلصوه، قال فجمعنا ما كتبنا في صعيدٍ واحدٍ ثم أحرقناه بالنار”!

وإن كان من المُسَلَّم به أن القرآن لم تتغير نصوصه مع الوقت، ومنذ نزوله، فإن هنالك عشرات المؤشرات التي تؤكد أن الحديث النبوي لا يجب أن تكون له حجية مثل القرآن. من ضمنها أنه تم تدوينه بعد قرابة القرنين من وفاة النبي (ص) اعتماداً على ذاكرة أجيال متباعدة من الرواة، وأن كُتُب الحديث النبوي تضم بين صفحاتها المئات من النصوص التي تتعارض مع القرآن ومع العقل، بل تشتمل في كثير منها على ما يسيء للنبي (ص)؛ وأن منها الكثير الذي يدُلّ محتواها على أنها وردت في سياق محدد، وهو وضع النبي كرئيس لأول دولة مركزية نشأت في جزيرة العرب. إضافة إلى ذلك، فإن كل كتب الحديث قد خلت من إيراد أي خطبة للنبي، مع العلم بأن عددها لا يقل عن 500 خطبة صدرت عنه في صلوات الجمعة أو الأعياد باعتباره إماماً للمسلمين في صلواتهم!

وفقاً لذلك، وعلى أساس أن القرآن والحديث النبوي، هما المصدران الأساسيان للمعرفة الدينية لدى الفرد المسلم، يصبح من الضروري إعادة النظر بشكل جذري في مناهج التفسير، وفي حجية الحديث النبوي، كواجب حتمي، لا يمكن بدونه معالجة قضية الإصلاح الديني الذي نعتبره حجر الزاوية في أي برنامج يستهدف النهوض بدول العالمين، الإسلامي والعربي.

مواضيع قد تهمك

نقد العقل المسلم

إن أسلم طريق لتحقيق النهضة المأمولة، وإعادة المجتمع الإسلامي للمشاركة الفاعلة في تقدم الحضارة الإنسانية، وتجاوز حالة التخلف التي تلقي بظلالها القاتمة على العالم الإسلامي منذ أن أغلقت أبواب الاجتهاد، المُفضِي للتغيير، من قبل الائمة الغزالي وابن تيمية وغيرهم؛ إن أسلم طريق نراه هو الإصلاح الديني، المنطلق من الدين نفسه.

يدُل الوضع السياسي العام في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وتصريحات قادة مسلمين كبار من أمثال ولي العهد السعودي والرئيس المصري وغيرهما، بأن هنالك حاجة ملحة وجوهرية للنظر في المنظومة الفكرية المؤثرة على عقل وضمير الفرد المسلم. مع وضع ذلك في الاعتبار، نرى أن الفرصة أصبحت سانحة، أكثر من أي وقت مضى، أمام المفكرين الحداثيين للتصدي لقضية الإصلاح الديني المنشود، وتأسيس فقه جديد يتماهى مع المستوى الحالي من التقدم الذي وصلته الحضارة الإنسانية.


[1] مجموع فتاوي شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، ابن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، طبعة 2004 م، ج 6 ص 18.

[2] ج 13 – ص 339.

[3] إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم الجوزية، دار ابن الجوزي – الدمام، الطبعة الأولي، جزء 2، صفحة 385.

الصورة الرئيسية: طلاب عرب يحرقون العلم الدنماركي بعد أن نشرت الصحف صوراً مثيرة للجدل للنبي محمد