الاستاذ الدكتور طه حسين المتخصص بالأدب العربي في مارس 1926 قدم بحثا في كتاب أسمه “في الشعر الجاهلي”، في هذا البحث أستنتج أن أغلب القصائد الشعريه المنسوبه للعصر الجاهلي (أي قبل الاسلام) هي مزيفه تم إصطناعها بعد الأسلام ولصقها بالجاهلية.

بقلم: محمد عبد الحكيم


وكما هو معروف أن معجزة القرآن هي اللغه العربيه حيث أن قريش “قبيلة محمد رسول الأسلام” وشعرائها كانت متفوقه في علوم اللغه ومنها الشعر، وحسب ما تناقله المسلمون حتى الأن أن القرآن أفحم فطاحلة اللغه العربيه في قريش بأسلوبه الأدبي واللغوي الرفيع، وهذا دليل على أنه كتاب سماوي حسب زعم المسلمين، وبالتالي خسرت قريش التحدي وآمنوا بأن محمد رسول من عند الله ودخلوا الأسلام.

في البحث الذي قدمه طه حسين يقول في بدايته:

سأسلك في هذا البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفه، وأريد أن اصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه “ديكارت” في البحث عن حقائق الأشياء، حيث يتجرد الباحث من كل شئ كان يعلمه من قبل.

فيبدأ في بحثه بعدة أسئله، فمثلا يقول:

سأبدأ بالقرأن وأعتبره هو مصدر تاريخي حقيقي غير مزيف وأجد فيه أيات فيها تحدي لكلاً من اليهود والنصارى والماجوس والمشركين من قريش، وكل هؤلاء كانوا موجودين في جزيرة العرب، فلماذا لم نجد في الشعر الجاهلي أي شئ عن العادات الدينيه في فترة قبل الأسلام؟؟ بل إن القرأن فيه أيات عن ردود أهل قريش وجدالهم لمحمد لم نجد لها أي أثر في الشعر الجاهلي!

ثم ينتقل لنقطه أخرى مهمه، وهي هل فعلاً قريش كانت هي صاحبة أصل اللغه العربيه وأنها هي أعظم من نطق باللغه في هذه الفتره حتى تكتمل معجزة القرأن؟

يجيب طه حسين لا بكل تأكيد، لأن هناك عرب العاربه (القبائل القحطانيه) وهم الاوائل في التحدث باللغه العربيه ومكانهم اليمن، وهناك عربه المستعربه(القبائل العدنانيه) وهم من تعلموا اللغه العربيه على يد عرب العاربه ومنهم إسماعيل جد محمد وأبن ابراهيم وكل الجزيره العربيه هم من تعلموا اللغه على يد أهل اليمن، بالتالي نستنتج أن محمد وأهله ليسوا من عرب العاربه بل هم من المستعربين أي أن معجزة القرأن لو هي حقيقيه فمكان حدوثها في مكه لا يجعلها معجزه لأن القرأن لو آراد أن يتفوق من حيث اللغه العربيه لنزل الوحي في اليمن عند أهل اللغه الأصليين.

ويطرح قضيه أخرى وهي ذكر ابراهيم واسماعيل في القرأن وفي التوراه ويناقشها تاريخيا، ويقول ليس لمجرد ذكر اسمائهم يعني بالضروره أنهم أشخاص حقيقين، ويصل لأستنتاج مفاده أنه نتيجة الصراع بين اليهود والمسيحين في الجزيره العربيه مع الوثنين كان لابد من ظهور دين يحل هذا الصراع، دين يكون إمتداد لليهوديه والمسيحيه ” وهذا سبب ذكر ابراهيم وأسماعيل” وأيضا يظهر في قلب أتباع الأوثان وهم بالتأكيد قريش ومحمد أبن بنو هاشم أكبر العائلات  في قبيلة قريش.

هذه مقدمه بسيطه للبحث الذي قدمه الدكتور طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي” التي أزعجت التيار الأصولي في مصر وعلى رأسه المؤسسه الدينيه الرسميه “الأزهر”، وتم تكفير طه حسين والتحريض عليه، وتم منع تدريس الكتاب في الجامعه ، وفي 30 مايو 1926 تقدم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالازهر ببلاغ للنائب العام يتهم فيه الدكتور طه حسين الاستاذ بالجامعه المصريه بأنه الف كتاباً اسمه “في الشعر الجاهلي” يطعن فيه على القرآن، وفي 5 يونيو 1926 تم إرفاق للبلاغ تقرير لعلماء الأزهر يؤكد فيه ان كتاب “في الشعر الجاهلي” فيه طعن صريح على القرإن وعلى الرسول ونسبه، ويطالب بإتخاذ الوسائل القانونيه الفعاله ضد هذا الطعن على دين الدوله الرسمي.

وكان طه حسين خارج مصر، وعندما عاد في يوم 19 اكتوبر 1926 أُستكمل التحقيق. وبعد عدة أشهر من التحقيق في البلاغ المقدم ضده الذي لو كان البلاغ قُدم اليوم لكان مصير طه حسين السجن المشدد، لكن من حسن حظ الدكتور طه أن مصر في هذه الفتره كان هامش الحريه كبير إلى حداً ما، وهذا ما جعل محمد نور الدين رئيس نيابة مصر يرى بأن ما ذكره طه حسين هو بحث علمي لا يتعارض مع الدين أو به مخالفه قانونيه،. ولذلك قررت النيابه حفظ البلاغ المقدم ضد الاستاذ الدكتور طه حسين إدارياً وهذا في30  مارس 1927.

هذا مثال واحد من مئات الأمثله للصراع بين الأصوليه والعلمانيه.
العلماني إذا طرح فكره فهي في نظر الأصولي جريمه، لأن الأصولي مفلس فكرياً، والعلماني لديه ثراء فكري، فأي فكره لعلماني في أي مجال من مجالات الحياه المتعدده تقابل بفكره واحده لدى الأصولي وهي التكفير، بالإضافه إلى سيّل من السباب والتهديد بالسجن وصولاً إلى الأعتداء جسديا بالضرب وفي أحيان أخرى تصل إلى القتل.

مصر قبل ثورة يوليو 1952 كان سقف الحريه مرتفع جداً عما نحن فيه الأن، لذلك كانت مهمة التيار الأصولي صعبه لأنه مثل السمكه إذا خرجت من الماء تختنق من الهواء، فالقمع بالنسبه للأصولي هو الماء بالنسبه للسمكه والحريه بالنسبه له هي الهواء الذي يجعل السمكه تختنق.

دستور 1923 كان به مواد تحمي حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير عن الرأي، وهذه عينه من مواده التي ذكرتها النيابه وبرأت طه حسين على أساسها:

الماده 12 تنص على أن حرية الاعتقاد مطلقه

الماده 14 تنص على أن حرية الرأي مكفوله للجميع ولكل مواطن له الحق في التعبير عن فكره بالقول او الكتابه او بالتصوير، أو بغير ذلك.

بل إن صيغة الأسئله التي كانت توجه للدكتور طه حسين في النيابه كانت تبدأ ب… هل يمكن لحضرتكم.. أو هل تعتقدون حضرتكم…. أي أن المحقق كان يعلم مسبقاً بأن التحقيق مجرد إجراء روتيني، وأن الذي يجلس أمامه مفكر وليس متهماً.
لذلك ليس غريباً على الذين يقومون بصياغة الدستور المصري الجديد بتقديم هذه الأقترحات:

الماده الأولى مصر دوله شوريه

الماده الثانيه مصر دوله إسلاميه

الماده الثالثه السياده لله!

وكل ذلك لخلق بيئه مناسبه للحركات الأصوليه وفي نفس الوقت تكون غير مناسبه للتيار العلماني، حتى يتمكنوا من السيطره بشكل كامل على المجتمع بدون مقاومه، ولا يتبقا أمام التيار العلماني إلا الخروج من مصر كما قال الشيخ السلفي محمد حسين يعقوب “اللي مش عاجبه يطلع على كندا”.

لقد خاض التيار العلماني معارك كبيره مع التيار الأصولي، ولازلنا في صراع تاريخي معهم لم ينتهي بعد، وفي أخر 50 سنه إنتهت أغلب المعارك لصالح التيار الأصولي وخصوصاً بعد ثورة 25 يناير 2011.  لكنّي أُحب أن أقول لهم… الضربه التي لا تُقصم ظهورنا تقوينا، أي أننا مستمرون في معركتنا. وأيضاً أُحب أن أُذكرهم بهذه المقوله ما طار طير وارتفع الا كما طار وقع. بإختصار شديد النهايه الحتميه لهذا الصراع لصالح التيار العلماني، لأن حركة التاريخ مع العلمانية.


محمود محمد طه: سلك مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفه في البحث عن ‘حقائق الأشياء’

اليمن القديم: حسب المنطق الموطن الأصلي لـ “الإعجاز اللغوي” العربي