من سلبيات الخلط بين الغزو الاستعماري والحضارة الحديثة، نشوء هذا الحاجز الضيق بيننا وبين الفكر الإنساني. يجب التفريق بين ما يسمى بالغزو الفكري والتفاعل الحضاري.

بقلم: عبد الحميد الانصاري


وكان من تداعيات الصدمة الحضارية بالغرب الغازي المتفوق 1798 بروز تساؤلات فكرية كبيرة: لماذا تفوق الآخرون علينا؟ لماذا تقدموا وتخلفنا؟ ما عوامل الخلل؟ كيف النهوض؟ تعددت الإجابات عبر قرن ونصف بتعدد اتجاهات المفكرين ومشاربهم، بداية بالرواد الأول: الطهطاوي، التونسي، الكواكبي، الأفغاني، محمد عبده، وكانت الصفة الغالبة عليها، الصفة الدفاعية ضد الآخر المتغلب، وفي مطلع القرن الماضي أصبحت التساؤلات أكثر إلحاحاً وشكلت تحدياً كبيراً للفكر العربي وتطلبت استجابة مختلفة، وتبرز في سماء القرن العشرين جهود كواكب لامعة، أبرزها المشروع الإصلاحي للإمام محمد عبده (ت 1905)، الذي تمحور حول إصلاح نمط التفكير الديني، وفي الثلث الأخير من القرن الماضي ظهر مفكرون أصحاب مشاريع فكرية متكاملة (مروة، تيزيني، حنفي، أركون، العروي، طربيشي، الجابري، زكي نجيب محمود، فؤاد زكريا، محمد جابر الأنصاري وغيرهم).

فلا يوجد عقل عربي أو إسلامي بإزاء عقل غربي أو مسيحي

كانت أولى الإجابات تركز على أن علة التخلف ابتعاد الأمة عن دينها، فلا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها “الإسلام هو الحل”، بينما رأت الإجابة الثانية أن التأزم السياسي المتمثل في غياب الديمقراطية، هو الداء المزمن بسبب عجز العرب عن الاتفاق على آلية سياسية تضمن الانتقال السلمي للسلطة، وذهبت إجابة ثالثة إلى أن نظامنا التربوي والتعليمي هو العلة في الإخفاق، ورأت إجابة رابعة أن تخلف العرب يكمن في قصورهم العلمي والتقني لأن التحديات التي واجهتهم خلال القرون الخمسة الأخيرة كانت تقنية، ولم تجد استجابة سليمة منهم، إذ استطاعت البرتغال، وهي دولة صغيرة عام 1498، السيطرة على الخليج بخمس سفن حاملة للمدافع (أنطوان زحلان).

وهناك من رأى في الاشتراكية العربية حلاً، واستراح قطاع كبير إلى تحميل الاستعمار مسؤولية التخلف، واتجه آخرون إلى أن العلّة كامنة في “العقلية العربية” لافتقادها الروح النقدية والنظرة التاريخية، كما يقول الجابري في مشروعه الفكري الضخم “نقد العقل العربي”، ولعل الجابري هو الذي بلور وطرح مصطلح “العقل العربي” في ساحة التداول الفكري بدءاً من 1984 فراج وانبهر به كثيرون حتى بان زيفه، فالعقل بمعنى القدرة الذهنية واحد لدى البشر، وهو أعدل الأشياء قسمة بينهم (ديكارت) فلا يوجد عقل عربي أو إسلامي بإزاء عقل غربي أو مسيحي، ولا يمكن أن يكون للعرب عقل مختلف عن عقول بقية الشعوب، لكن الشعوب تختلف في طرق تفكيرها وفي فاعلية هذا التفكير في مواجهة التحديات، وقد رصد كثير من المفكرين جوانب القصور في منهج التفكير العربي في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية بسبب النزعات المؤثرة في كفاءته:

1- النزعة الماضوية: العقلية العربية أسيرة الماضي المجيد، تعيد إنتاج مقولات السابقين وتبحث في الماضي حلولاً لمشكلات الحاضر.

2- النزعة الذكورية: العقلية العربية محكومة بإرث ثقافي ينتقص من المرأة ويؤمن بأعلوية الرجل.

3- النزعة التقديسية: للتاريخ، ينتقي من التاريخ اللحظات المضيئة ويغيب ألف عام من الصراعات والانقسامات والظلام.

4- النزعة الإقصائية: الفكر العربي فكر إقصائي للآخر اعتقاداً بأنه يملك الحقيقة المطلقة.

5- النزعة الارتيابية في الآخر: يحتل وهم التآمر العالمي علينا المساحة العظمى من تفكيرنا.

6- النزعة التمجيدية للذات: وتعظيم محاسنها في مقابل الانتقاص من الآخر والمغالاة في سلبياته.

وعلى الجانب الإسلامي ظهرت مؤلفات تعنى بنقد العقل المسلم أبرزها “نقد العقل المسلم: الأزمة والمخرج” الصادر عن “مركز الراية” بالقاهرة 2001 للأستاذ عبدالحليم أبو شقة، صاحب أعظم موسوعة في تحرير المرأة المسلمة، يسلط الكتاب الأضواء على “العقل المسلم المعاصر، المؤطر ما بين الانتحار الجسدي والانتحار الحضاري وتجلياته الاستهلاكية”، ويهدف إلى تحرير عقل المسلم،

“هذا العقل الذي هو أعظم نعمة بعد الإيمان، الدين جاء لتحرير العقل لكن ورثة الدين حجروا عليه بتضييق نطاقه في الحفظ والتلقين وبتقديس السابقين -تقديسك عقل غيرك معناه إلغاء عقلك- وبالتخوف المفرط من الوقوع في الخطأ الاجتهادي”.

– انحراف العقل المسلم: يرصد الكتاب هذا الانحراف في أعراض رئيسية، من صورها: النفور من الحوار مع المخالف، التعميم في الأحكام، الحكم على النوايا، اتهام الآخر، الانشغال بالشعارات، شخصنة المبادئ.

والأفكار، الاهتمام بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، التفكير الأحادي، المبالغة في إبراز مزايانا في مقابل إبراز عيوب المخالفين، عدم تقدير العلوم الحديثة، الخلط بين الديني والبشري والثوابت والمتغيرات.

– موقف الحركات الإسلامية من أزمة العقل المسلم: لعل أصدق نقد يوجه إلى الحركات الإسلامية من أحد رموزها هو ما فعله المؤلف إذ يقول: الحركات الإسلامية وإن استطاعت إخراج الدين من نطاق الإصلاحات الجزئية إلى نطاق الإصلاح العام فإنها عالجت الأمر بطريقة ساذجة سطحية، بتقرير أحكام جامدة على الحياة الحديثة وبمحاولة السطو المسلح على السلطة لإقامة حكم الله، فأفسدوا الدين وأفسدوا السياسة معاً، وهي وإن جددت التفكير السياسي الديني فإنها من الناحية العقلية والمنهجية بقيت تقليدية متعصبة تقدس التراث وتعادي الفكر الإنساني، ويشير المؤلف إلى الجراثيم المنتشرة في جسم هذه الحركات متمثلة في مفاهيم مشوشة: اختلاط مفهوم الجهاد بالعنف، طغيان مفهوم الحكم الإسلامي، تقسيم المجتمع إلى جاهلي وإسلامي.

– مظاهر الأزمة: هناك 10 مظاهر للأزمة التي يعيشها العقل المسلم: النظرة الخاطئة إلى تاريخ العالم باعتباره صراعاً بين الحضارات لذا علينا أن نصارع الحضارة، تعطيل عمل العقل خوفاً على عمل الوحي، شيوع مخدرات العقول مثل: حشو الذهن، الوصاية على الآخرين، شيوع سياسة ردود الأفعال، النظرة الأحادية والسطحية، عدم التمييز بين تعاليم الدين واجتهادات الفقهاء، إهدار مقاصد الشريعة، السلبية تجاه الفكر الإنساني ورفضه بحجة أن عندنا الكمال، التشدد في مظاهر الدين على حساب الأخلاق.

– أزمة العقل وأزمة الأخلاق: يرى المؤلف أن أزمات الأخلاق مرجعها أزمة العقل أي الفهم الخاطئ والميل مع الهوى، فالثقة المبالغ فيها بالعقل وحده، رد فعل تاريخي عنيف على الاتجاه الكنسي في الغرب، يقابله عندنا اتجاه الفكر الديني الوارث لعصور الانحطاط والذي يرى أن الدين جاء بكل شيء بتفاصيله الدقيقة، وكلاهما فاشلان.

– نتائج الانحطاط في عالم الإسلام: بدأ الانحطاط في القرن الخامس الهجري وسيطر على معظم مظاهر الحياة وأنتج: الجمود الفكري، التقليد المذهبي، نبذ العلوم الطبيعية، انعدام الاستقرار السياسي، ويرجع المؤلف هذا الأمر إلى التقديس غير الواعي للتراث الذي كلف المسلمين 500 عام من الجمود والانحطاط والظلام الفكري، إن الله فرض قدسية دينه ولا قدسية لاجتهادات البشر ولو كانوا صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن نحن ورثة الدين سجنّا الدين وسجنّا الإنسان بإخضاعهما لتراث القرون السابقة وإرهاب المخالفين بسيف “الإجماع” فأُعدم المجتهدون وتغلب المقلدون وكثر التعصب، ويقرر المؤلف في جرأة محمودة: يجب علينا أن نتحرر من قرارات التحريم التي نصدرها على كل جديد، كما تحررت أوروبا من قرارات الحرمان الكنسي.

مواضيع قد تهمك

حاجتنا إلى فكر التنوير


التقديس المفرط للتراث وإلى كل ما له صلة بالدين: من عيوب العقلية المتدينة -غير الراشدة- استعدادها للتقديس بغير حساب ومع التقديس يكون التسليم المطلق، ومن عيوبها نتيجة لما سبق، قابيلتها الكبيرة للتشدد في الدين (زيادة الخير خيرين)، وهذا يؤدي إلى ضعف النظر والبحث ووزن الأمور، لذا يجب التحرر النفسي من التقديس وإلا استمر العقل المسلم بلا إبداع.

– الموقف من الحضارة: لعل المؤلف من الإسلاميين النادرين الذين يحملون نظرة متوازنة للغرب الحضاري، إذ يقرر بأن خروج العقل المسلم من أزمته لن يكون إلا بفهم الحضارة المعاصرة بالتعمق في دراستها واتخاذ موقف إيجابي منها، فهي حضارة العالم لا حضارة أمة بعينها، ويدهشنا -رحمه الله- حين يؤكد

“إذا لم نفهم الحضارة الغربية جيداً فلن نعي عصرنا جيداً، وإذا لم نع عصرنا فلم نفهم الدين الفهم المنبثق من عقل هذا العصر ولن نجتهد الاجتهاد الملائم لظروفه”

لا أظن أن أحداً سبقه إلى هذا القول ولا حتى المنبهرين بالحضارة المعاصرة وأنا واحد منهم! ويضيف:

“إننا حين نأخذ من الغرب ونتجاوز مشاعر الرفض، لن نقف عند العلوم الطبيعية وتقنياتها بل نأخذ -وفي يدنا ميزان الحق- كل جهد عظيم في مجال العلوم الإنسانية- وهذا ما يرفضه معظم الإسلاميين- وإذا جاز لآبائنا الرفض يوم كان الغزو ضارياً فاتخذوا موقف الدفاع لأنهم محاصرون في حصونهم الثقافية، فإن الدفاع لا يجوز لنا اليوم، ونحن نستطيع أن نقدم الإسلام في وسط حصون الغزاة”.

– الموقف من الفكر المستورد: لا يرى المؤلف هذا التعبير ويقول

“الصحيح أن نصف الفكر بمضمونه الصالح أو الفاسد، فكم من فكر مستورد وصالح وكم من فكر محلي وفاسد”

وهل كل ما عندنا صالح وكل ما عند الغير فاسد؟! أليس الفكر الإسلامي اليوم فكراً مستورداً لدى الغرب؟ – ماذا نأخذ وندع من الفكر الإنساني؟

هناك من يفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فيرى الأخذ من الأولى وترك الثانية، والواجب أن نأخذ من هذه وتلك سواء بسواء، والفيصل هو مدى علميتها،

والفكر الإنساني عامة فيه بقية هدى أنتجتها الفطرة الإنسانية والجهد العقلي الذكي.

– التغريب والتحديث: التغريب يعني قبول ثقافة الغرب قبولاً مطلقاً بخيرها وشرها، والتحديث هو الاختيار الجاد لأحسن ما في ثقافة الآخر، وبذلك نحافظ على شخصيتنا كأمة لها تاريخ ولها رسالة على مستوى العصر.

– لماذا العلاقة السلبية بالغرب؟ من سلبيات الخلط بين الغزو الاستعماري والحضارة الحديثة، نشوء هذا الحاجز الضيق بيننا وبين الفكر الإنساني، وتعميق التصور الخاطئ للعلاقة بين الحضارات، لذلك يجب التفريق بين ما يسمى بالغزو الفكري والتفاعل الحضاري.

يجب التفريق بين ما يسمى بالغزو الفكري والتفاعل الحضاري

الموقف من الاستشراق: يحمل المؤلف موقفاً متوازناً من الاستشراق لأنهم لا ينحازون عند دراستهم للفرق الإسلامية إلى فرقة معينة، وإذا كانت هناك بعض العيوب فيهم فهناك مميزات كثيرة تدعونا إلى الإفادة منهم، وبعد: لن يتسع المقام لعرض تصورات المؤلف لإعادة تشكيل العقل المسلم، ولعلنا نتعرض لها في مقالة أخرى إلا إنه من المهم أن نشير إلى أن من أهم هذه التصورات، تعزيز موقع “العقلية العلمية” في المجتمع والوقوف في صف العقل والعلم ضد الخرافة وتعطيل العقل، وضرورة تعزيز ثقافة الحوار في المجتمع لأننا لن نكتشف أخطاءنا إلا بمحاورة المخالفين لنا، كما يلح المؤلف على “التجديد” كضرورة دينية وحضارية ويرى أنه “الفريضة الغائبة”.

في تصوري أن هذا الكتاب عمل جبار لعقل استوعب أفضل ما في تراثنا كما أحاط بأرقى المعطيات الفكرية للحضارة المعاصرة، قال عنه د. محمد عمارة:

هو واحد من أهم الأعمال الفكرية التي كتبت في نقد العقل المسلم المعاصر ومناهجه في التفكير.

محمد عبده: موقف دفاعي

ما زالوا يقومون بأول رد على فشل المسلمين
الجابري: تحليل مفرط في التشاؤم