على الشباب أن يتعمقوا في القراءة والثقافة ولكن عليهم في نفس الوقت اخضاع كل ما يقرؤونه أو يستمعون اليه للفكر النقدي واعمال العقل ففي ذلك التحصين الفكري الشافي من أمراض التطرف والتعصب وكراهية الآخر

بقلم: عبد الحميد الانصاري


عندما يشتد الظلام تشتد الحاجة الى النور، تشهد مجتمعاتنا اليوم صعود قوى تتبنى حلولاً ماضوية، ويسود وهم كبير لدى الجماهير حين تراهن على تلك الحلول علاجاً لواقعها البائس، مجتمعاتنا في حاجة ماسة اليوم الى فكر التنوير لعبور أوضاعها المتردية وحلول الماضي لن تجدي نفعاً، قبل قرن كانت النخب الثقافية والسياسية منشغلة بسؤال النهضة الكبير: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا واليوم نخبنا منشغلة بفتاوى رضاع الكبير وختان الاناث وطروحات التطرف المذهبي وصراعات الهويات الضيقة !

لماذا هذا التراجع الحضاري، ولماذا صعود الهويات الضيقة؟ أتصور أنه لغياب فكر التنوير، دعتني (جمعية المنتدى) البحرينية للحديث حول (حركة التنوير ودور الشباب فيها) وهي واحدة من جمعيات المجتمع المدني التي تملأ الفضاء البحريني نشاطاً ووعياً، فما هو فكر التنوير؟ التنوير هو تسليط نور العقل على كل الموروثات الفكرية المعوقة للتفكير الحر أو هو ما عبر عنه الكاتب البحريني علي الديري في كلمته – نيابة عن وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة – في احتفالية (التنوير ارث المستقبل) بالكويت ديسمبر 2008 فقال:

التنوير هو هندسة للخروج من قصور عقولنا وأرواحنا وأجسادنا ذلك القصور الذي يهمنا اياه ظلام الطوائف والمذاهب والمرجعيات الدينية والأيدلوجية، التنوير هو استرداد الانسان لنوره الخاص الذي يضيء به حقائق الوجود

والتنوير عند أركون:

هو تحرير العقل من عطالته بما يشمل نقد العقل لنفسه

وتتعدد التعريفات ويجمعها معنى مشترك: وهو أن التنوير: الاقلاع عن تقديس السلف والانشغال بترديد أقواله وشغل المجتمع بخلافاته الماضوية.

متى بدأ التنوير؟ يبدأ عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر وسمي بالأنوار تمييزاً له عن العصور المظلمة قبله، حدث التنوير حين قررت أوروبا الاستفاقة من سبات القرون الوسطى لتحرير عقلها من عطالته، فانطلق يكتشف ويخترع ويبدع ويصنع المعجزات العلمية والحضارية التي نقلت البشرية نقلة نوعية مختلفة عن الحضارات السابقة، هذا التنوير هو الذي جعل الحضارة المعاصرة حضارة استثنائية كما يقول المفكر السعودي المبدع ابراهيم البليهي والذي يعد أفضل من شخص الخصائص النوعية لهذه الحضارة في 30 تغييا نوعيا لم تعرفها حضارات الأمس، تلك الحضارات التي كانت تستبعد الانسان وتطمس فرديته ليكون نسخة مكررة من غيره: يهتف للسائد ويتعصب للمألوف ويقاوم التغيير، كان الفرد مبرمجاً ليكون خلية في جسم القبيلة أو الدولة ليس من حقه التفكير المستقل،

كان تقديس السلف والتعصب لأقوالهم وعدم اخضاع الموروث للمراجعة والنقد هو المنهج المتبع، كانت حركة المجتمعات محكومة بفكرة أن السابق لم يترك للاحق شيئاً، كان الناس يؤمنون بفكرة التراجع الحضاري المستمر بمعنى أن كل جيل لاحق هو أدنى في كل شيء من الجيل الذي قبله، كان الانسان يعتمد اعتماداً كلياً على ما تنتجه الأرض عبر آلاف السنين اذ كان عالة على الطبيعة حتى جاء فكر الأنوار فاستيقظ الانسان ليكتشف طاقاته الخلاقة الكامنة: فكراً وعلماً واختراعاً ومبادرة وابداعاً ومهارة، وهكذا تحول الانسان من الاعتماد على ما تجود به الطبيعة الى الاعتماد على ما يبتكره عقله وابداعه ومهارته وهكذا أصبح الانسان في ذاته هو الطاقة المتجددة وغير الناضبة وذلك هو أعظم انجازات التنوير في أنه جعل الانسان أعظم ثروات الأمم، ثروة دائمة، انه (العقلية التخليقية) التي تحدث عنها الكاتب الأميركي كلفر في كتابه (لن يجوع العالم) في استثمار الذكاء الانساني، هل عرفت حضارتنا الفكر التنويري؟ وهل الدين يناقض التنوير؟

مجتمعاتنا في حاجة ماسة اليوم الى فكر التنوير وحلول الماضي لن تجدي نفعاً

الأديان كلها رسالات تنويرية للانسان لانتشاله من الظلمات والضلالات المحيطة به، جاءت هادية لعقله ومنيرة لضميره ومهذبة لسلوكه كما في (الوصايا العشر) وجاءت رسالة الاسلام خاصة تثير العقل البشري للتفكير والمراجعة للموروث من العادات والتصورات، جاءت لقوم أبرز صفاتهم أنهم يقدسون أسلافهم ويتمسكون بمواريثهم ولا يعملون عقولهم فيها، جاء القرآن ليقول أن اعمال العقل فريضة وعبادة وأن التقليد والاتباع – من غير تبصر – قصور واهمال وعجز، وكانت دعوة الاسلام دعوة لتحرير الشعوب من سلطتين متحكمتين: السلطة السياسية والسلطة الدينية، وعندما قال القرآن الكريم (لا اكراه في الدين) فانه أعلى من شأن عمل العقل في الاختيار، وقد عرفت حضارتنا على امتداد خمسة قرون نهضة عظيمة عمادها التنوير والعقلانية وأنتجت عباقرة ومبدعين أبرزهم ابن رشد، وكانت (قرطبة) كما يقول جارودي في كتابه (قرطبة عاصمة الفكر) منارة تنوير للعالم كله من القرن 9 الى القرن 13 وما كان الانسان يعد مثقفاً في تلك الفترة ان لم يكن يعرف العربية، وفي تلك العصور الذهبية كان الدين والفلسفة توأمين لا ينفصلان طبقاً لهاشم صالح في كتابه التنويري الهام (الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟)

الآن: ما حاجتنا الى فكر التنوير وما دور الشباب فيه؟ ان ما تعانيه مجتمعاتنا من ظواهر التطرف الديني والمذهبي والتعصب والعنف والكراهيات المتبادلة كل ذلك في تصوري يرجع الى تهميش فكر التنوير عن منابر التوجيه والتثقيف، ومن ناحية أخرى فان الفكر التنويري لا يجد بيئة حاضنة ولا سنداً ولا دعماً في الوقت الذي يجد الفكر المناوئ للتنوير منابر وفضائيات ومنتديات وجماعات واحزاب تدعمه وتروج له وتشحن قلوب وعقول الناشئة والشباب بفكر الكراهية للآخر وتقديس المراجع الدينية والأيدلوجية التابعة لها.

ان نشر فكر التنوير يجب أن يكون مهمه أولى من مهام المفكرين والمثقفين والاعلاميين ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الانسان اضافة الى مساندة ودعم علماء الدين المستنيرين له، وذلك انطلاقاً من النظر الى الانسان باعتباره قيمه مركزية عليا وأيضاً من أهمية تحكيم العقل في كل شؤون الحياة، أما عن دور الشباب في حركة التنوير فان من أكبر مهامهم أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لجميع التيارات السياسية والفكرية والثقافية والدينية والمذهبية ويزيل كافة الحواجز النفسية والمذهبية والأيدلوجية بين بعضهم بعضاً فهم جميعاً أبناء وطن واحد، على الشباب الاستماع الى كافة وجهات النظر والتمسك بآداب الحوار وعدم تخوين أو تكفير أو تفسيق أو اتهام الآخر المخالف كما أن عليهم أن يحسنوا الظن بمن يخالفهم، عليهم أن يتعمقوا في القراءة والثقافة ولكن عليهم في نفس الوقت اخضاع كل ما يقرؤونه أو يستمعون اليه للفكر النقدي واعمال العقل ففي ذلك التحصين الفكري الشافي من أمراض التطرف والتعصب وكراهية الآخر، كما أن عليهم التمسك بمفهوم المواطنة كانتماء أعلى فوق كل الانتماءات والولاءات، فالمواطنة هي الابن الشرعي لفكر الأنوار.

[1] D. H. Killefer, لن يجوع العالم.  دار المعارف  Cairo 1963.

فولتير: نجم في عصر التنوير

القرطبة: منارة التفكير التنويري من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر