القدرة على التفكير المنطقي، وبالتالي إنتاجية فكرية منطقية قادرة على تغيير الواقع في اتجاه مفيد للبشرية ومجتمعه هي غائبة عن العالم العربي. على المستوى الاجتماعي من أبرز ملامح هذا العوق الفكري هو عدم قدرة المجتمع على العطاء العلمي و انجاب النخب الفكرية القادرة على تسيير الفكر الاجتماعي.

بقلم: محمد الصندوق


قد يكون سيجموند فرويد (1856-1939) هو اول من تناول عقدة الاخصاء بأسلوب علمي منطقي. حسب نظرية فرويد في مسالة سفاح القربى يقوم الاب بالتذكير بالإخصاء الفكري وقد قام فرويد بتطبيق ذلك على نفسه باعتباره عقيم فكريا وانه هو شخصيا من فرض هذا العقم على نفسه. [1] اما اعتبار مصطلح الاخصاء الفكري او التعقيم الفكري كتأثير اجتماعي فقد ورد في كتاب “المرأة و علاقتها الاجتماعية” الصادرعام 1864 للكاتبة الإيطالية انا موزوني (Anna Maria Mozzoni ) (1837-1920) و ذلك من خلال تناولها تأثير المجتمع الإيطالي السلبي على المرأة. [2]

ان ما نعنيه بالإخصاء الفكري هو حرمان الشخص المخصي فكريا من القدرة على التفكير المنطقي ومن ثم عدم القدرة على الإنتاج الفكري المنطقي القادر على تغيير الواقع باتجاه منفعة الانسان ومجتمعه. ولكي تتم عملية الاخصاء هذه لابد من تغيير جذري يتم اجرائه في بناء طريقة التفكير لدى الشخص المخصي.  عملية الاخصاء الفكري الاجتماعي عملية مؤدلجة يقوم بها المجتمع لاحتواء افراده ضمن إطار فكري معين يمكن السيطرة عليه وتوجيهه بما هو مطلوب أيديولوجيا.  من ملامح الشخصية الاجتماعية المخصية فكريا: 

  • لا ابعاد فردية لها فهي ذائبة في محيطها الاجتماعي الذي لا يُشجع التفرد. الغاء و ذوبان الشخصية الفردية ضمن البناء الاجتماعي المؤدلج ,المتدين , او القبيلي. لذا فهي دائما بحاجة الى المرشد او الدليل لإرشادها المستمر.
  • عدم قدرتها على التفكير المنطقي سواءً كان عقليا او علميا و تعتمد الرواية السردية في اثبات الحجج.
  • سهولة ارتدادها وتغيير قناعتها باتجاه النمط الاجتماعي السائد (التربية الاجتماعية السائدة اقوى من التربية الفكرية المدرسية).
  • من السهولة احتوائها وقيادتها اجتماعيا من قبل الفكر الموجه لها.  
  • عدم قدرتها على إدراك التناقض بين المنطق العلمي والفكر الغيبي. وتعتبرهما نمطين منفصلين يمكن التعامل معهما معا. وهذا النمط ظهر حديثا بعد دخول الفكر العلمي المعاصر هذه المجتمعات.
  • هدف الباحث المخصي فكريا هو الوصول الى النتيجة التي يريدها اي المُعدة مسبقا وبذلك تختفي القدرة على العطاء العلمي المبدع.

تعاني المجتمعات العربية – الإسلامية من عوق فكري حاد على المستوى الاجتماعي وليس الفردي.

على المستوى الاجتماعي من أبرز ملامح هذا العوق الفكري هو عدم قدرة المجتمع على العطاء العلمي و انجاب النخب الفكرية القادرة على تسيير الفكر الاجتماعي. مجتمع بهذه القابلية يكون بمقدوره استخدام المنطق في حل المشاكل الاجتماعية ومواجهة الطبيعة والبيئة. ان امتلاك البناء المادي الازم للبناء لا يعني بالضرورة إمكانية تجاوز إعاقة الاخصاء الفكري. لذا يمكن القول بان هذه الظاهرة لا ترتبط بالمجتمعات البدائية التي لا تمتلك مقومات البناء المادي اساساً.  المجتمعات البدائية لا تعاني أساسا من التسلط الأيديولوجي كسبب رئيسي وراء تخلفها. المجتمعات البدائية لا تعاني من عوق الاخصاء الفكري لذا فان طريق التطوير امامها مفتوحا وأسهل كثيرا من المجتمعات التي تعاني من هذا العوق الفكري.

لقد سبق لي وان لاحظت تراجع العطاء العلمي العربي -الاسلامي باستخدام المنهج الاحصائي[3]  ما بين عمي 2009 و 2012 وعزيته الى القيود الفكرية [4] التي ظهرت بعد القرن العاشر كما سبق و ان اطلق روبرت رايلي  (Reilly R) عام 2011 مصطلح الانتحار الثقافي (Intellectual Suicide) على هذه الظاهرة [5].  نهاية عام 2015 قدم ايرك جيني (Eric Chaney) الأستاذ في جامعة هارفرد دراسة إحصائية عن المؤلفين العرب والمسلمون[6]. كانت دراسة جيني دراسة مستقلة كُليا عن دراستي السابق ذكرها ولكنها جاءت بنتائج مطابقة وبصورة كبيرة جدا لما سبق وان نشرته.  كل تلك المحاولات تشير بما لا مجال للشك في ان المجتمعات العربية -الإسلامية تعاني من عوق فكري حاد على المستوى الاجتماعي وليس الفردي.

لقد بدء تراجع العطاء الفكري للمجتمعات العربية الإسلامية منذ قرون (حوالي القرن العاشر الميلادي) نتيجة عملية اخصاء فكري اجتماعي هدفه الأساس محاربة المنطق العقلي. أن محاربة المنطق العقلي عملية غاية في الخطورة وبالذات إذا كانت موجهة باتجاه إعادة بناء الفكر الاجتماعي. لقد جاءت هذه العملية لصالح اعتماد الفكر السلفي المعتمد على النص دون المنطق العقلي. وبمرور الزمن ازداد الابتعاد عن المنطق العقلي تقرُبا من الفكر الديني المنغلق والسائد. وهذا ما حدث حيث تم إعادة تشكيل الفكر الإسلامي منذ القرن العاشر تقريبا وسار هذا التشكيل باتجاه إعادة بناء المجتمعات العربية-الإسلامية للنمط الحالي.

أن عملية الاخصاء الفكري في وقتنا الحاضر تتم بمنتهى السلاسة ومن خلال التربية الاجتماعية اليومية

 قد يكون من الممكن تشخيص بداية التأثير الاجتماعي لهذا العوق الفكري في المجتمعات العربية-الإسلامية من خلال استشراف ما عبر عنه الشاعر العربي أبو العلاء المعري (973-1057 ميلادية) في القرن العاشر الميلادي. ان المعري معاصر لفترة بداية التراجع الفكري والحضاري. لقد بين المعري عاملين مهمين هما الجهل وتقبل المجتمع للجهل بحيث أصبح الجهل متفشيا ومقبولا اجتماعيا ومن ثم تأثير الجهل المتفشي على الفرد في ذلك المجتمع. لقد قال المعري:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا           تجاهلتُ حتى ظُنَّ إني جاهلُ

فَوَاعْجَبَا ! كَم يَدَّعِي الْفَضْل نَاقـص    وُوَأَسُّفا ! كَم يَظْهـر الَنْقـص فاضل

بَين المعري عمليه التجهيل الاجتماعي وطريقة خلق الإعاقة الفكرية منذ القرن العاشر.

أن عملية الاخصاء الفكري في وقتنا الحاضر تتم بمنتهى السلاسة ومن خلال التربية الاجتماعية اليومية في البيت ودور العبادة والمدرسة والتي تعتمد أسلوب الحفظ والتلقين والتقليد بدلا عن تعليم الاستنتاج والتفكير المنطقي والبحث عما هو جديد والنقد الفكري. خطورة هذا النمط هو في صعوبة محاربته او الحد من تأثيره. انه أولا نمط اجتماعي سائد وغائر في الذات الاجتماعية وثانيا انه نمط سلس لا يحتاج جهد فكري او مستوى ثقافي معين وثالثا انه فكر متجذر اجتماعيا وعمره حوالي عشرة قرون من الزمن.

أن الاخصاء الفكري المعاصر يحول الفرد الاجتماعي الى دمية طيعة يُحركها المُخول بعملية التحريك ومن خلال وسائل الاتصال الحديثة ذات التأثير الاجتماعي الكبير والعابر للحدود. لا شك في ان الاخصاء الفكري وعدم القدرة على تقبل الحداثة من اهم أسباب الشعور بالاغتراب الزمني[7] العنيف الذي قاد ومازال يقود الى انتكاسات سلوكيه غاية في الشذوذ والإحباط على المستويات الاجتماعية المحلية والعالمية.

[1] E. M. Jones, Degenerate Moderns: Modernity as Rationalized Sexual Misbehavior, Ignatius Press, 1993, p.230.

[2] K. Mitchell, Italian Women Writers: Gender and Everyday Life in Fiction and Journalism, 1870-1910, University of Toronto Press, 2014.

[3] Sanduk, M. ,The Influence of Freedom on Growth of Science in Arabic-Islamic and Western Civilizations, 2009, http://philsci-archive.pitt.edu/4766/ and Sanduk M, Growth of science under the influence in Arabic-Islamic and Western Civilisations, 700-1900 (Statistical Models), Pittsburgh University, Philosophy of Science Archive, 2012 http://philsci-archive.pitt.edu/9012 .

[4] M. I. Sanduk, Intellectual distortion and societal suicide, Almuslih.org.

[5] Reilly R, The Closing of the Muslim Mind: How Intellectual Suicide Created the Modern Islamist Crisis, Intercollegiate Studies Institute; 1st Edition (April 4, 2011).

[6] Chaney E., Religion and the Rise and Fall of Islamic Science, December 2015,      http://scholar.harvard.edu/files/chaney/files/science_12_10_2015.pdf?m=1452366555 .

[7] M. Sanduk, Contemporary Islamic thought and chronological alienation, Almuslih.org.

المعري: لم يعد قادراً على رؤية الانحطاط الفكري والثقافي بفضل جبهة النصرة 2013