ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية.  لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري وقاد الى انتكاسات حضاريه خطره عبر القرون الماضية.

بقلم: محمد عزالدين الصندوق


لقد مر النصف الاول من القرن العشرين بمحاولات تقليد للحداثة الغربية وعلى مستويات عدة. وكانت هذه الفترة بمثابة مرحلة الانبهار والافتتان بالغرب وانجازاته. تسمى هذه المرحلة في الصدمة الحضارة ب”طور شهر العسل” [1]ٍ الذي لن يدوم. في مرحلة الانبهار تم التنازل عن الزي التقليدي وتغيرت المدن وطرق البناء وتبدلت العادات الاجتماعية وحتى المفردات اللغوية والكثير الكثير مما كان ساكنا غير متطور خلال النفق الزمني .  ويُتبع طور الانبهار باطوار اخرى مختلفه من اطوار الصدمة الثقافية. وما تزال هذه المجتمعات تعيش هذه الصدمة. هذا ما كان على المستوى الدولي اما على المستوى الاجتماعي فأن مرحلة ما بعد التراجع ما تزال ترسم ملامحها القاسية في البناء والهدم , في التجريب والاستكانة بين الانفتاح والانكفاء, بين الاصالة والمعاصرة ,التناوب ما بين الاستقرار والاضطراب…,عدم وضوح الهوية , هذه ملامح صدمة ثقافية اجتماعية خطرة. وبالتاكيد فان خطورة الصدمة الثقافية الاجتماعية تجاوزت مجتمعاتها لتُطبع بطابع عالمي.

في هذه المرحلة عاشت المجتمعات العربية والاسلامية مشكلة الانفتاح على الحضارة الانسانية المعاصرة بعد انعزال شبه تام استمر ما يقارب القرون التسعة من دون اية مساهمة في النشاط الانساني العالمي. كان هذا الانفتاح من دون هوية عصرية ومن دون تقنية حوار منطقي. لذا اخذت هذه المجتمعات تستورد ما كان بعيدا عنها ومن دون امكانية تمحيص. استوردت الطعام والدواء والعلوم والاساليب السياسية وطرق ادارة الدولة  واساليب التدريس والبناء….ولم يكن بمقدارها العطاء في عالمها الجديد. كما انها تعيش مرحلة التجريب الجديدة والمستوردة هي الاخرى وبكل ما في التجريب من توقعات قد تكون غير محمودة العواقب.

المجتمعات العربية والإسلامية مجتمعات فريدة من حيث دخولها سباتا تاريخيا استمر قرابة التسعة قرون. إنها ليست مجتمعات بدائية بدون تاريخ حضاري . إن المجتمعات البدائية يكون سباتها التاريخي امتدادا طبيعيا نتيجة بدائيتها. أما السبات العربي الإسلامي فهوحالة شاذة في تاريخ المجتمعات البشرية. والغريب أن الفكر العربي المعاصر الذي كثيرا ما يطرح مشاريع نهضوية أو تحديثية لا يحاول أن يدرس هذا الانقطاع التاريخي وأسبابه ليكون البناء بالاتجاه الصحيح وعلى أسس صحيحة. ما زال المفكر العربي ينظر لهذا الانقطاع على انه ظاهرة طبيعية إن لم يحاول أن يلقي اللوم على أحداث التاريخ والأمم الأخرى. أو ربما قد ينظر لهذا الانقطاع على انه شيء لا يستحق الدراسة والنظر.  النقد الذاتي وتشخيص نقاط الخلل والضعف ظاهرة علمية وهي إحدى أسباب التطور والتحديث المستمر ولكن ما يزال الفكر العربي والاسلامي بعيد عنها ويتعامل معها على أساس الموضة الفكرية. في التاريخ العربي المعاصر الكثير الكثير من الهزائم الخطرة وقف إزائها الفكر العربي عموما (ليس أفرادا) حائرا لا يعرف هل هي هزيمة أم انتصار؟ مشكلة النقد الذاتي ظاهرة عربية معاصرة, هي لا تختلف في شيء عن أي مشكلة من مشاكل التعامل مع أي شيء مستورد.       

السبات العربي الإسلامي فهو حالة شاذة في تاريخ المجتمعات البشرية

منذ سقوط الاعتزال (سقوط العقل) وطيلة القرون الماضية وهذه المجتمعات لا مصدر لثقافتها وتربيتها الاجتماعية سوى الجوامع والتكايا. حتى العلوم التي عُرفت في فترة النهضة تم نسيانها او تناسيها بعد القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن العشرين . لقد كانت اوربا في العصور المظلمة تعيش صراعات فكرية شديدة ومختلفة في حين المجتمعات العربية والاسلامية لم تعرف مثل هذه الصراعات في عصورها المظلمة. لقد كانت التربية الدينية والاجتماعية التي يقودها الفكر الديني لا تطمح إلا للتسبيح وحمد الله والسلطان وتقبل الارشاد من دون نقاش. لقد كانت وما زالت الجوامع ودور العبادة هي مصدر المعرفة الاجتماعية الاساسية من خلال الوعض والارشاد والتوجيه.  ظهرت بعض المدارس في بعض المدن الكبيرة خلال القرن التاسع عشر ولكنها كانت بسيطة جدا ومحدودة العدد وليس لها أي تاثير اجتماعي على الاطلاق.

لذا لا عجب من امكانية الفكر الديني في السيطرة على تلك المجتمعات عبر تلك القرون. لقد تغلغل الفكر الديني في كل شيء وبالنتيجة يكون مَن تغلغل هم مَن قام بالسيطرة الفكرية وهم علماء الدين ولا علماء غيرهم في هذه المجتمعات.

مواضيع قد تهمك

نقد العقل المسلم

لقد عاشت هذه المجتمعات قرونا من دون نقاش فكري وتلاقح حضاري لذا فليس غريبا ان يكون الفكر السائد الان يتراوح ما بين الاسطورة والتقليد ومحاولات التحديث الساذجة.  ظهرت الكثير من الدراسات العربية والاسلامية التي حاولت تسليط الضوء على الطبيعة الفكرية المعاصرة واعتمدت هذه الدراسات  مدارس تحليلية مختلفة في تناولها للموضوع مثل “نقد الفكر الديني” لصادق جلال العظم ومجموعة دراسات لعلي زيعور “التحليل النفسي للذات العربية”  وهناك الكثير الكثير من الدراسات. ورغم اختلاف مدارسها الفكرية  الا انها جميعا تؤشر التناقضات والصراعات التي تعيشها هذه المجتمعات. من ابرز الدراسات التي تعيد الانكسارات السلوكية الاجتماعية العربية الى النمط الفكري السائد كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” [2] لصادق جلال العظم . يسلط العظم في كتابه الضوء على السلوكية الناتجة عن النمط الفكري الاجتماعي والتي قادت الى هزيمة عام 1967 العسكرية وفي الواقع مجمل الهزائم العسكرية وكافة الانتكاسات الحياتيه اليومية. وهو في هذا الكتاب يستثمر ما سبق وان طرحه في كتابه ” نقد الفكر الديني ” من رؤيا تحليليه  وهنا يلعب الفكر الديني السائد دورا محوريا واساسيا في ذلك.  وبعد قرابة نصف قرن من صدور الكتاب فان الوضع الفكري الاجتماعي ما زال على ركوده.  

ان الفكر الاسلامي الاجتماعي السائد الان هو وريث الفكر الذي سيطر على هذه المجتمعات خلال القرون العشرة الماضية.  لم يتمكن هذا الفكر السائد من ان يسير بهذه المجتمعات خارج اطار الممارسات الدينية والانغلاق الفكري وقاد الى انتكاسات حضاريه خطره عبر القرون الماضية. لم تتكون او تتطور عبر تلك القرون جوانب سياسية ومنظومات فكرية يكون من شانها تطوير المجتمع .لذا فان هذا العمق الزمني لهذا النمط الفكري وفر للحركات السياسية المعاصرة التي تتبناه قاعدة جماهيرية واسعة. ورغم عدم قدرة هذا الفكر على تجاوز امكانياته الا ان المجتمعات التي تأصل فيها لقرون عدة يصعب عليها تجاوزه. انه يشكل اطارها الفكري والسلوكي.

يكون الفكر السائد الان يتراوح ما بين الاسطورة و التقليد و محاولات التحديث الساذجة

وكما افرز التطور الحضاري الكثير من الإبداعات في مختلف مناحي الحياة فأن التخلف الحضاري هو الاخر افرز الكثير من الانحرافات الفكرية ومظاهر التخلف المتجذرة في مختلف مناحي حياة المجتمع. وإذ تقوم المجتمعات المتحضرة بتصدير إبداعاتها المختلفة بيسر وسهولة لأنها انتاجات مقبولة ومطلوبة فان التخلف الحضاري لا يملك ما يصدره سوى الاخفاقات والمشاكل…

الفكر الذي عجز عن بناء مجتمعاته عبر قرون لاشك في انه الان اعجز مما كان عليه سابقا. البناء الحضاري المعاصر بلغَ من التعقيد مكانا يصعب على من غادره لسنين العودة اليه فكيف بمن لم يعرفه ابدا… أن مرحلة ما بعد التراجع التي بدأت بعد الحرب العالمية الاولى تشهد انكسارات خطرة وبناء متذبذب ولكنها ليست سوى مراحل التجريب القاسية التي ستؤدي الى نهاية الفكر المتراجع حتما. لقد اضاعت هذه المجتمعات قروناً من عمرها من دون انجاز بسبب هذا النمط الفكري وهي الان تتلكئ في تململها من اجل محاولة النهوض. أن النهضة لا يقودها الا العقل وطالما بقى العقل مُغيبا فان النهضة لا معنى لها. ولكون العقل قوة يصعب خنقها في عالمنا المعاصر فان مرحلة التغييب العقلي لن تستمر مهما طال الزمن. امكانية البناء موجودة ولكنها بحاجه الى نمط فكري جديد وتقبل اجتماعي …

  1.  Oberg, Dr. Lalervo. “ Culture Shock and the Problem of Adjustment to the New Cultural Environments”. World Wide Classroom Consortium for International Education & Multicultural Studies. 29 Sept 2009.
  2. صادق جلال العظم, النقد الذاتي بعد الهزيمة, دار الطليعة للطباعة والنشر , لبنان 1968.

صادق جلال العظم: ألقى الضوء على طبيعة التفكير المعاصر

التكايا والمساجد: بدائل ضعيفة للثقافة والتعليم بعد عصر المعتزلة