من خلال هذه السطور تتضح ظاهرة النمو الحضاري التدريجي ومن ثم التلاشي لهذه النهضة. في دراسة سابقة [1] اهتمت بدراسة التطور العلمي العربي – الاسلامي وباسلوب احصائي للعلماء المتمييزين تبين لنا من هذه الدراسة ان التطور العلمي في هذه الحضارة نمى خلال القرون الثلاثة الاولى بعد ظهور الاسلام حيث اخذ النمو العلمي بالتوقف حوالي القرن الحادي عشر الميلادي في فترة محاربة المعتزلة. واستمر التراجع العلمي منخفضا في معدلاته حتى يومنا هذا.

بقلم: محمد الصندوق


عند هذه المراحل الثلاث لابد من التوقف والتركيز في البحث عن اسباب النمو والتراجع. لاشك في ان النمو العلمي كان مترابطا مع ظهور الفكر المعتزلي. وهنا نجد ان ظهور وتطور الاعتزال ما كان ليحدث لو لم تكن هناك فسحة من الحرية الفكرية تسمح بالنقاش العقلي للنص المقدس. كما ان الاعتزال ركز كثيرا على حرية الاختيار والمسؤولية المصاحبة (وهذه بدايات الفكر الوجودي Existentialism ).

حرية كهذا ليست بالشيء اليسير والبسيط والدليل على ذلك ان جو الحرية هذا اقترن بظهور الغناء والموسيقى والشعر الماجن وافكار متطرفه مثل الزندقة وثورات طالبت بالمساواة والعدالة مثل القرامطة والزنج. هذا الجو الحر كان سائدا في ثلاثة حواضر عربية عباسية وفاطمية واندلسية. ساهمت جميعها في تعزيز العطاء العلمي. لقد عرفت تلك الفترة التسامح الديني والقومي بصورة واسعه جدا حيث ساهم المسيحيون واليهود والصابئة والفرس… والكثير الكثير من الاديان والقوميات في ذاك البناء العلمي.

لقد كانت تلك المرحلة اقرب ما تكون للعلمانية التي نعرفها الان. في جو كهذا يزدهر العلم وينمو. وما الانجازات العلمية والثقافية التي خلفتها تلك المرحلة الا مؤشرا دقيقا على ذاك الاتساع الكبير للحرية  التي كانت وقتذاك.

لم يكن للعرب تراث في الفكر الفلسفي قبل الاسلام عليه فأن هذا الفكر المعتزلي الوليد لم يكن ليستند على خلفية تاريخية صلدة من التفلسف العربي  تجعله صلدا عصيا على التقهقر والكسر. لذا كان وئدهُ سهلا وسريعا اذ على ما يبدو انه زال كظاهرة بعد القرن الحادي عشر الميلادي. على عكس الفكر الاغريقي الذي استطاع استيعاب المسيحية الشرقية وعندما حاول الفكر الديني في اوربا ان يسيطر ويقمع الحرية الفكرية التي كانت هي الاخرى تستند على فكر فلسفي عريق انتصرت الحرية الفكرية. ليظهربعد ذلك اتجاهان منفصلان لا يؤثر احدهما على الاخر ولا يستطيع احدهما الغاء الاخر.

لم يستطع الفكر المعتزلي العقلي الاستمرار امام القمع الفكري والاضطهاد الاصولي ولم يتمكن المفكرين من تكوين تيارين منفصلين لكل منهما خصائصه كما حدث في اوربا.  لقد بينت نتائج البحث الاحصائي  ترابطا واضحا للنمو والتوقف العلمي مع فترة ظهور وتلاشي الفكر المعتزلي. على ذلك يمكننا القول بان الحرية الفكرية التي وفرها الاعتزال كانت وراء تلك النهضة العلمية اليتيمة والتي تلاشت بتلاشيه. لقد انصف الكثير من الباحثين الغربيين والعرب المحدثين المعتزلة ودورهم الحضاري ومن العرب احمد امين في كتابه (ضحى الاسلام) يقول:

وفي رأيي أنه لو سادت تعاليم المعتزلة إلى اليوم لكان للمسلمين موقف آخر في التاريخ غير موقفهم الحالي وقد أعجزهم التسليم وشلهم الجبر، وقعد بهم التواكل…. في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة

وهذا يعني لو ان الفكر الحر تُرك لينمو بصورته الطبيعية لكان الوضع الان مختلفا تماما عما هو عليه. اذن التراجع العلمي هو احد ظواهر التراجع في الحرية الفكرية.  وتلك المرحلة تمثل اول نهظة عرفتها المجتمعات العربيه  لتعيش بعدها في سبات طويل تجاوز القرون العدة من الزمن. ان معظم الكوارث والانتكاسات الحضارية فكريةً كانت او سياسية عاشتها المجتمعات العربية والاسلامية تعود جذورها للانحطاط في مستوى الحرية الفكرية للمجتمع عموما وسيطرة الفكر النقلي الذي يعيش الحاضر بغذاء الماضي.

لقد قاد الخطاب الفكري المتشدد الذي قمع الفكر من التحرك الى السكون الحضاري. أن الظاهرة العلمية ظاهرة عالمية ساهمت بها معظم المجتمعات الانسانية متنقلة من مجتمع الى اخر ومتنامية بانتقالها مثل كرة الثلج. وهكذا كانت لعبة التطور العلمي في الحضارة العربية الاسلامية. لقد ساهمت تراجم المجتمع المنفتح لانجازات هندية واغريقيه ومن امم اخرى في مؤسسات مثل بيت الحكمة في ترجمة الجهد الانساني السابق واضافة الجديد له. ومثلما اخذ العرب من الاخرين اخذ الاخرون من العرب وهكذا هي لعبة الحضارة.

ان انتقال المعرفة هو احدى وسائل تطور العلوم والمعرفة الانسانية عموما ومتى ما وجدت هذه المعرفة البيئة الخصبة المناسبة لها اسقرت لفترة اطول متناميةً. وهذا ما حدث ويحدث على مر التاريخ الانساني. لقد تمكن الغرب من احتضان المعارف السابقة ولمختلف شعوب الارض ووفر لها البيئة المناسبة للنمو والحرية هي اهم شرط من شروط البيئة العلمية اضافة لعوامل اخرى متعلقة بالجانب المادي.

وهكذا ازدهرت العلوم وما زالت تنمو ناقلة الفكر الانساني من مرحلة الى اخرى. ولولا الصراع الدموي الذي عاشه الفكر الحر في اوربا منذ القرون الوسطى وحتى عهد التنوير في القرن الثامن عشر لما تطورت العلوم والفكر العلمي. لقد صاحب تطور العلوم الطبيعية تطور اجتماعي وانساني كبير منذ القرن السادس عشر وحتى الان.

ان انتقال المعرفة من مكان الى اخر هو المرحلة الاولى في النهضة العلمية وليس النهضة ذاتها. المرحلة الاهم هي مرحلة توفير البيئة المناسبة للنمو وهذا لم تدركه المجتمعات العربية والاسلامية لحد الان مع الاسف. هذه المرحلة هي الاصعب لانها مرحلة توفير البيئة الاجتماعية والفكرية والمادية للنمو.

أن الاسلام الذي قاد للنهضة العلمية تلك هو ليس الاسلام الحالي الذي تكون من تراكم الاختناقات التي اضافها التدريسين الاسلاميين خلال قرون الظلام.


[1] http://philsci-archive.pitt.edu/4766/

الصورة الرئيسية: أرسطو العربي: انتقال المعرفة الإنسانية من مكان إلى آخر

الاسطرلاب: من منتجات فسحة من الحرية الفكرية

تظهر الإحصائيات العلاقة بين الحرية والتقدم العلمي