لقد فات على كثير من الباحثين في الإسلام وموروثه ٬ طرح جملة من الأسئلة والتساؤلات لم تخطر ببالهم ٬لكنها خطرت ببال غيرهم وقادت مسار أبحاثهم في اتجاهات ظلت ولازالت غائبة تماما عن العقلية التقليدية الإسلامية وعن عموم المسلمين.

بقلم: جدو جبريل


إن الأمر الإسلامي ومناولة القرآن ظل حكرا على الفقهاء والعلماء التقليديين (حراس الهيكل) الذين حرصوا حرصا شديدا ٬على امتداد قرون ٬ على إبقاء الأبواب موصدة أمام محاولات فهم مغاير وتناول مُخْتَلِف لأمور الإسلام وقضايا القرآن. وهكذا سادت آراء ومواقف الذين ظلوا مخلصين للنقل والترديد والتكرار والاجترار. وظل هذا النهج سائدا إلى أن قذف بالشعوب الإسلامية خارج دائرة التاريخ.

إن النهج السائد في التعامل مع التاريخ ٬ في دائرة الإسلام ٬ اعتمد المنطق العقائدي الدفاعي التبريري التبجيلي ٬ وهذا دون إخضاعه لأي إعادة نظر رغم التطورات الهائلة التي عرفها العالم والبشر في كافة المجالات. وكل من تجرأ وسوّلت له نفسه التساؤل حول أمر الإسلام أو القرآن أو الموروث الإسلامي فقد كفر أو تزندق٬ بل قد يصل الأمر لهذر دمه باسم الله والدين.

لقد تأخر المسلمون كثيرا٬ ولازالوا كذلك٬ في اعتبار الشأن الديني عموما كقضية ضمن الحقائق الواجب تمحيصها وليس حقيقة قبلية مطلقة وجب التعامل معها كما هي أو كما يعرضها حراس الهيكل. ومازال غالبية المسلمين غير قادرين على رسم مسافة بين العقيدة والدراسة البحثية.

مازال غالبية المسلمين غير قادرين على رسم مسافة بين العقيدة والدراسة البحثية

وهكذا ظلت هذه العقلية خاضعة للقوالب الجاهزة على امتداد قرون دون الابتعاد عنها قيد أنملة. ففي الدائرة الإسلامية، ظلت قراءة المقدس قراءة عقائدية – دينية مرسومة نتائجها مسبقا وليس قراءة ثقافية وتاريخية أو سوسيوثقافية وتاريخية نقدية.

فقد تكون الارثودوكسية الإسلامية ٬ بعد أخد ورد عبر قرون٬ كرست تفسيرا معينا للقران وترتب عليه فهم وأمور أخرى وأصبح كل مخالف ينعت بالضلال والهرطقة والكفر إلى حد هدر الدم. وقد تكون طبيعة النص القرآني ومتون الأحاديث الكثيرة المتكثرة ساعدتها على ذلك. وقد تكون “المؤسسة الإسلامية” تبنت عقلية قعدت ضمان استمرار حضورها وفعاليتها على طمس وتغييب الآخر رأيا وفهما وتصورا٬ وإقبار كل ما من شانه أن ينال من مصداقيتها ومن شرعية “المنظومة السياسية” التي عضت عليها بالنواجذ وحرصت, حرصا مستميتا, على استمراريتها بعد أن أسستها على مرتكزات سماوية دينية.

كل هذا يحث بقوة على تمحيص العقلية الإسلامية من حيث طبيعتها ونهجها وأساليبها وأدواتها وتجسداتها على ارض الواقع٬ وهذا بغية محاولة الإحاطة بها في إطار شمولي مترابط الأطراف. آنذاك ستبدو معالم السبيل الذي انتهجته والتأثيرات التي رسختها. لقد ذهب بعض الباحثين إلى القول إن :

– التاريخ المبكر للإسلام ملعوب فيه

– السنة مفبركة – القرآن إشكالية

– العلوم الشرعية والفقهية الإسلامية علوم مخرومة.

ويخلصون إلى أن هذا ما هو إلا نتاج لعقلية زئبقية تبريرية تبجيلية ترسخت عبر قرون، وتألقت ونجحت في تخدير عقول عوام المسلمين.

فهل التمحيص غير المتحيز يقر بهذا أم ينفيه؟ لقد صمدت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية، ومن العوامل التي ساعدتها على الصمود أن الأغلبية الساحقة للمسلمين هم مسلمو “عقيدة” وليس مسلمي “إيمان” – وهذا مما سهل مأموريتها.

لكن مع انتشار عقلية المساءلة والتمحيص والرغبة في تأسيس الإيمان على التصديق، ارتبك أمر هذه العقلية وبدأ يتجلى عجزها على مقارعة الحجة بالحجة، فاعتمدت الطريق السهل، السب والشتم والتجريم والشخصنة والتكفير، إذ لم يكن أمامها اختيار بفعل جمودها وتكلسها على امتداد قرون.

إن عقلية الفقهاء والمفسرين، في غالبيتهم الساحقة، ظلت تقذف بتفسيرات وتعليلات وتخريجات للحالة ولنقيضها لتبرير الأساطير والاختلاقات التي تم نسجها بخصوص النبي والقرآن والتاريخ المبكر للإسلام. وما دام عامة المسلمين يبتلعون دون تمحيص ودون إعمال العقل، فكلما برز تناقض ما تقذف لهم تخريجات جاهزة معلبة لتجاوز الإحراج.

إن أمل إصلاح هذه العقلية في هذه المرحلة، هو على عاتق مسلمي الغرب

هكذا ساهمت هذه العقلية بقوة في إخراج الإسلام والقرآن والسنة عن دائرة التاريخ. واليوم يعيش الموروث والسردية الإسلاميين مأزقا جراء ما أنتجته هذه العقلية على امتداد قرون. علما أن هذه المآزق ازدادت حدة في عالم عرف تطورات هائلة وغير مسبوقة على مستوى فهم الكون ونواميس الطبيعة وفك ألغازها. لكن تلك العقلية ظلت على حالها وتمترست خارج دائرة التاريخ.

وفي نهاية المطاف آلت هذه العقلية إلى وضع جعلها لا تتماشى مع تطور البشرية والمعارف، وبالتالي أضحت إمكانية الإصلاح الفعلي وتقويم الاعوجاج عسيرة وقد تكون بعيد المنال.

قد يفيد التمحيص غير المنحاز للسردية الإسلامية وموروثها، أن الأرثودوكسية الإسلامية، بعد أخذ ورد – عبر قرون – كرست تفسيرا معينا للقرآن وكل ما ترتب عليه من تطبيقات، وكل من خالفها في الفهم والتفسير والتأويل، نعث بالهرطقة والكفر إلى حد هدر الدم. ويبدو أن طبيعة النص القرآني – المصحف – ومتون الأحاديث الكثيرة المتكثرة، ساعدتها على ذلك.

لقد تبنت “المؤسسة الإسلامية” – منذ قرون – عقلية بنت استمرار حضورها وفعاليتها على طمس وتغييب الآخر – رأيا وفهما وتصورا – وإقبار كل ما من شأنه أن ينال من صدقيتها ومن شرعية “المنظومة السياسية” التي عضت عليها بالنواجذ وحرصت حرصا مستميتا على استمراريتها بعد أن أسستها على مرتكزات سماوية دينية. وحالما يعلم المتمحص بــ :

– طبيعة هذه العقلية

– نهجها وأساليبها

– أدواتها وأسلحتها

– تجسداتها على أرض الواقع

ويحيط بذلك، يغدو تصوره عنها في إطار شمولي متكامل الأطراف. آنذاك ستبدو له بوضوح معالم السبيل الذي انتهجته والتأثيرات التي رسختها. وهذا ما يدعو الباحث غير المتحيز إلى تمحيص هذه العقلية قبل الحكم عليها.

لتتبين لك جوانب من الكيفية التي تشتغل بها آليات العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية، عليك أولا وضع الأصبع على الإحراج أو الموقف المحرج المراد تفاديه، ثم القيام بتمحيص “التخريجة” المعتمدة. وبعد ذلك عليك البحث عن الأحاديث المرتبطة بالخريجة وتمحيصها جيدا. سوف يتضح لك هل يمكن الاعتداد بها جملة وتفصيلا أم فيها ما يدعو إلى الشبهة، وقد تعثر على ما يدلك على أنها، ربما، مجرد “تخريجة” مختلقة ومفبركة لتجاوز موقف محرج أو لإقبار تناقض صارخ.

كلما وقفت على موقف محرج يدعو إلى “تخريجة”، ابحث عن الأحاديث والنوازل المرتبطة بالموضوع، لا محالة أنك ستهتدي إلى العثور على أحاديث وتفسيرات مشبوه فيها، وقد يدلك التقاطع بينها ومقارنتها بدقة، عن قرائن توشي بالاختلاق والفبركة.

إن الممحص للقرآن – المصحف – مثلا ترهقه حقا الطريقة المرتب بها وتناثر مواضيعه هنا وهناك، وغياب الأوصال بين الآيات المتتالية في نفس السورة. وهذا أمر لا يخفى على أحد، علما أن القرآن هو آخر كتاب أنزل إلى البشرية ولا كتاب بعده. ووعيا منها – أي العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية – أن مثل هذه الأمور يشعر بها المطلع على المصحف، بادرت إلى “تخريجات” من قبيل: القرآن له نظم ونظام خاصين به، وله مفاتيح داخلية وخارجية لدراسته واستيعابه، وكلها كامنة في النص. وبالتالي، يبدو أن على المرء اليوم أن يختار بين أمرين:

– وضع الثقة العمياء في الشيوخ والفقهاء، وبلع ما يصدر عنهم بلعا، لأن الإنسان العادي لا يتوفر على مفاتيح سراديب فهم القرآن،

– أو البحث عمن يعلمه ” اللسان العربي المبين” الذي كان سائدا ومستعملا وقت نزول القرآن ولم يعد مستعملا منذ عدة قرون.

واحتياطيا، أخرجت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية وصفة تريح الجميع وهي:

“إن القرآن يتسع لسائر الأفهام والاجتهادات ومن شأنه مسايرة كافة التطورات والأحوال”.

“إن القرآن يتسع لسائر الأفهام والاجتهادات ومن شأنه مسايرة كافة التطورات والأحوال”.

ومن الأطروحات التي لازالت تكبل البحث، اعتبار ما هو وارد في المصحف الذي بين أيدينا اليوم، هو ” حرفا ورسما” كلام الله.

يبدو أنه لا يمكن تمحيص واقع الحال هذا من داخل الدائرة المتكلسة، وإنما من خارجها. لذا إن أمل إصلاح هذه العقلية في هذه المرحلة، هو على عاتق مسلمي الغرب. وذلك لأن مسلمي البلدان الإسلامية مازالوا متأثرين حتى النخاع بتكلس تلك العقلية، أما مسلمي الغرب لهم أكبر الحظوظ للتخلص من هذا التكلس والإفلات من النظر للدائرة من داخلها، للنظر إليها من خارجها لتمحيصها، وهذا بداية الغيث لإعادة إحياء العقلية الإسلامية بعد تكلسها.

لقد انبجست من العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية تخريجات غريبة أحيانا، منها ما يبرر الأخطاء البلاغية والنحوية وغيرها الواردة في المصحف. كما سعت حثيثا إلى “إلغاء” أو “القفز” على التناقضات الواردة في الأحاديث – حتى الصحاح – منها.
وقد ساهمت العقلية الزئبقية التبجيلية التبريرية في عدم التمكن من التحرر من الموروث الإسلامي، لا سيما الموروث الإشكالي للمفسرين والفقهاء . علما أن التطور الذي عرفته البشرية على الصعيد المعرفي وإزاحة اللثام على بعض ما تم التستر عليه من التاريخ المبكر للإسلام، تفرض اليوم أكثر من أي وقت مضى، عدم التعويل على الكثير من التراث النقلي والاجتراري الإسلامي، الذي ترسخ بالأساس عبر القبول دون تمحيص ومساءلة.