الإصلاح هو تحقيق للثورة من الجذور. يعني تغيير العقول والهياكل الثقافية التي يتم من خلالها تصور العالم. يتحول اللاهوت القديم إلى نظرية تحرير الأرض ، ومن نظرية الله إلى نظرية الإنسان ، ومن محور النبوة والمعاد إلى محور التاريخ الذي يطرح سؤال الحاضر.

بقلم: حسن حنفى


الإصلاح لفظ قرآنى. ورد أحد عشر مرة بمعنى الإصلاح بين الناس وهو الغالب أو الإصلاح فى الأرض وهو الأقل. فهو لفظ مقبول فى الثقافة العامة عند الناس وليس وافدا من الغرب مثل لفظ “علمانى”. وله ميزة على لفظ “سلفى” الذى ورد فى القرآن أيضا ثمانية مرات بمعنى سلبى وهو ما مضى وانتهى ولم يعد صالحا. يؤرخ للفكر الإسلامى الحديث فى القرون الثلاثة الأخيرة منذ محمد بن عبد الوهاب فى القرن الثامن عشر حتى سيد قطب فى القرن العشرين. يُستعمل على التبادل مع لفظ “النهضة” الأشمل. إذ يتجه الإصلاح إلى الإصلاح الدينى، مدرسة الأفغانى ومحمد عبده أساسا فى حين يضم لفظ “النهضة” باقى التيارات الليبرالية مثل الطهطاوى وخير الدين التونسى، والعلمى مثل شبلى شميل وفرح أنطون.

والخطاب الإصلاحى هو خطاب ثالث بين الخطاب السلفى والخطاب العلمانى. فالخطاب السلفى يعرف كيف يقول؟ يستعمل لغة التراث وألفاظ الدين ومصطلحات الإسلام، ولكنه لا يعرف ماذا يقول؟ يتكلم فى العبادات والحلال والحرام والحدود والموانع والزواجر. والخطاب العلمانى يعرف ماذا يقول؟ يتكلم فى التحرر والنهضة والتقدم والعلم والعدالة، ولكنه لا يعرف كيف يقول؟ يحيل إلى الليبرالية أو إلى الاشتراكية أو إلى القومية وإلى الأيديولوجيات العلمانية للتحديث التى لا تفهمها الناس. أما الخطاب الإصلاحى فإنه يعرف كيف يقول؟ يستعمل لغة الإسلام ومصطلحاته وألفاظه، وماذا يقول؟ لا يتكلم إلا فى المصلحة العامة، الفقر والقهر والبطالة والتعليم والعلاج. وفى نفس الوقت يخفف من حدة الاستقطاب بين الخطابين الأولين والتعارض بينهما. وهو فى الحقيقة ليس استقطابا فكريا فحسب بل هو صراع على السلطة فى صيغة خطاب.

. فلا يتغير شىء فى الواقع إن لم يتغير فى الذهن أولاً

يحقق الخطاب الإصلاحى التغير الاجتماعى من خلال التواصل بين القديم والجديد وليس الانقطاع كما يفعل الخطاب العلمانى أسوة بالنموذج الغربى فى القطيعة بين التراث والحداثة. فالمسيحية قراءة روحية لليهودية. والإسلام قراءة اجتماعية لليهودية والمسيحية، تجمع بين الشريعة اليهودية والمحبة المسيحية )وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(. وهو طريق الاجتهاد، قياس الفرع على الأصل لتشابه بينهما فى العلة. وهو تحقيق لحديث المجددين “إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”.

الإصلاح هو تحقيق الثورة من الجذور. إذ لا تعنى الثورة مجرد انقلاب عسكرى كما حدث فى الخمسينيات أو حتى انتفاضة شعبية كما حدث فى الربيع العربى بل يعنى تغيير العقول والبنيات الثقافية التى يتم بها تصور العالم. فلا يتغير شىء فى الواقع إن لم يتغير فى الذهن أولاً. وقد يكون أحد أسباب الكبوات المتتالية فى مشروع النهضة الحديثة هو أنها بدأت بالأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون أن تبدأ بالأبنية الذهنية الموروثة التى بقيت على حالها لم تتغير بالرغم من وضع أبنية ليبرالية فوقها من التنوير الغربى، فالحرية الوافدة تقوم على القدرية الموروثة. وحقوق الإنسان الوافدة تقوم على حقوق الله الموروثة، والعلم الوافد يقوم على المعجزات الموروثة.

يحتاج الإصلاح النسبى الذى تم حتى الآن فى القرون الثلاثة الأخيرة إلى إصلاح جذرى يكون سندا لأى حركة تغير اجتماعى أو ثورة سياسية. فيتحول علم الكلام القديم من نظرية فى الذات والصفات والأفعال والأسماء الإلهية إلى نظرية فى تحرير الأرض كما هو الحال فى “لاهوت التحرير”، ومن نظرية فى الله إلى نظرية فى الإنسان، ومن محور النبوة والمعاد أى الماضى والمستقبل إلى محور التاريخ بداية بطرح سؤال الحاضر: فى أى لحظة من التاريخ نحن نعيش؟ إصلاح أم ثورة أم نهضة أم انقلاب أم إفلاس؟ وتتحول الفرقة الناجية الواحدة إلى الاعتراف بالتعددية الفكرية، ورد الاعتبار إلى ما اعتبر قديما الفرق الهالكة طبقا للحديث الشهير الذى جعله الغزالى جزءا من العقائد الإسلامية “ستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة”. وهو ما يشكك فى صحته ابن حزم والعز بن عبد السلام. كما يحول المقامات والأحوال الصوفية التى مازالت سائدة فى الثقافة الشعبية مثل الصبر والتوكل والرضا والقناعة والخوف والخشية والفناء إلى قيم إيجابية تفيد فى التغير الاجتماعى مثل الاعتراض والثورة والغضب والتمرد والنفى والمقاومة.

لقد نشأ التراث الإسلامى القديم وما يتضمنه من علوم إنسانية فى ظروف تاريخية مختلفة عن الظروف التى يمر بها العالم الإسلامى فى العصور الحديثة. بل هى على الضد، من الانتصار إلى الهزيمة، ومن التقدم إلى التخلف، ومن العلم إلى التعلم، ومن الإبداع إلى النقل. وهو ما يحتم إعادة بناء هذه العلوم بما يتفق وظروف العصر وحاجاته.

كما يتطلب الإصلاح الجذرى التغير من نظرية فى الإصلاح إلى منهج فى الإصلاح حتى يصبح إصلاحا دائما وليس إصلاحا وقتيا، إصلاحا مستمرا وليس إصلاحا متوقفا. ومعظم اللحظات الحاسمة فى تاريخ الفكر هى تغيرات فى المنهج أكثر منها تغيرات فى الموضوع. ويتكون هذا المنهج من ثلاث خطوات:

إن الإصلاح هو مقدمة للإبداع الذاتى الحضارى بتطوير وإعادة بناء العلوم القديمة طبقا لظروف العصر

1- تجديد اللغة. فمازالت لغة التراث لغة قديمة مرتبطة بظروف نشأته، لغة كلامية مثل الذات والصفات، والخلق والقدم، والجوهر والعرض أو لغة فلسفية مثل الوجود والماهية، والكم والكيف، والزمان والمكان، والموضوع والمحمول، والنفس والبدن أو لغة فقهية مثل الحلال والحرام، والحدود، والقصاص والرجم والجلد وقطع اليد التى قد تعارض حقوق الإنسان أو لغة اجتماعية مثل أهل الذمة وأهل الكتاب التى قد تعارض حق المواطنة للجميع أو لغة الحرب مثل الجهاد والغنائم والسبايا والاسترقاق. لغة العصر لها ألفاظها مثل الحرية والتحرر والعدالة والتقدم والمساواة والحقوق.

2- تغيير مستوى التحليل من المستوى الإلهى مثل الخلق والقضاء والقدر والملائكة ومضاداتها من الجن والشياطين وإبليس إلى المستوى الإنسانى، الحرية والمسئولية وحقوق الإنسان. المستوى هو المحور أو البؤرة. فمازال الفكر الغربى يزهو بأنه أعطى العالم مفهومى الإنسان والتاريخ فى حين بقى الفكر الشرقى، والإسلام جزء منه، فى الله والخلود.

3- تغيير منهج التفسير، من تفسير النص إلى تحليل التجارب الحية، الفردية والجماعية. فالنص خاضع للصحة التاريخية، وكيفية التدوين، وطرق تفسيره، ومنطق اللغة بين الحقيقة والمجاز، الظاهر والمؤول، العام والخاص، المحكم والمتشابه، المطلق والمقيد. والمعنى ليس بداخله بل خارجه فى نفس القارئ أو المفسر. والتجربة الإنسانية بديهية. تتطابق فيها تجربة الفرد مع تجربة الآخر.

إن الإصلاح هو مقدمة للإبداع الذاتى الحضارى بتطوير وإعادة بناء العلوم القديمة طبقا لظروف العصر، وأخذ موقف من التراث الغربى الوافد بتحويله إلى موضوع للدراسة وليس فقط مصدرا للعلم، وإنشاء علم الاستغراب فى مقابل الاستشراق، والتنظير المباشر للواقع ورؤيته وتحليله تحليلا مباشرا دون توسط النص حتى يحول الإصلاح حضارة التأويل إلى حضارة التنظير المباشر للواقع.