إصلاح الإسلام اليوم ضروري وممكن. ما ينقص هو الشجاعة السياسية. صحيح أن عتاقة النخب الدينية سواء في الإسلام التقليدي أو في الإسلام السياسي لا تسهل التكيف الضروري مع العالم الذي نعيش فيه. لكن الشجاعة مطلوبة لمثل هذه الحالات. شجاعة النخب التي تملك رؤية واضحة للمستقبل الذي تقود إليه شعوبها بعزم.

بقلم: العفيف الأخضر


حسب ابن قتيبه، الإجماع، إجماع نخب الأمة وسلطاتها التشريعية بالمفهوم المعاصر، “أهم من الحديث في التشريع”. إذن إصلاح الإسلام لا يحتاج إلى نص بل إلى إجماع صناع القرار على أنه ضرورة ومصلحة. وكما يقول الشاطبي وحيث المصلحة فثمة شرع الله.

إصلاح الإسلام هو أولويّة الأولويّات . لأنّ على الشروع في إصلاحه يتوقّف نجاح الورشات الأخرى التي تبدو في الظاهر لا علاقة لها به كورشة الإصلاح الإقتصادي مثلا. ورشة إصلاح الإسلام لا تتنافى مع فتح الورشات الأخرى بل تتكامل معها وتقتضيها. ورشات الإصلاح جميعا يأخذ بعضها برقاب بعض كما يقول القدماء. فورشات الإصلاح السياسي والإجتماعي والتربوي… جزء لا يتجزّأ من ورشة إصلاح الإسلام. القاسم المشترك بينها ، أنّها جميعا تتطلّب كأولويّة مطلقة إصلاح صناعة القرار.

سبب الأسباب لتخلّفنا أو بما هو أدقّ لتخبّطنا الطويل في أزمة الحداثة ، التي نجتازها وعدم خروجنا منها سالمين حتّى الآن ، هو سوء صناعة القرار الذي مازال في تسعة على عشرة على الأقل من البلدان العربية لا تصنعه المؤسَّسات صناعةً علمية يكون الكمبيوتر أوّل صانع له. بل تصنعه نزوات وهذيانات الحاكم الفرد. واحد من بين عشرات الأمثلة، صدّام حسين الذي افتخر بأنّ القرار الكارثي عليه وعلى العراق وربّما على الشرق الأوسط كلّه، أعني قرار ضمّ الكويت، اتّخذه بناء على حلم رآه في المنام مُضيفا، إعتمادا على حديث محمّدي، بأن الحلم الصادق جزء من أربعين جزء من النبوّة. لكن الملاك الذي أوحى اليه بالحلم نسي أن يوصيه بطرح السؤال المركزي الذي توجبه صناعة القرار “وماذا في صباح اليوم التالي؟”.

القاسم المشترك بين كل فورشات الإصلاح، أنّها جميعا تتطلّب كأولويّة مطلقة إصلاح صناعة القرار

وهو السؤال الذي لم يطرحه قبله جمال عبد الناصر عندما طرد القوات الدولية المرابطة على الحدود المصرية الاسرائيلية في مايو  1967 ، والذي كان سبب حرب الستة أيام، ولم يطرحه بعده السيد حسن نصر الله عندما خطف الجنود الاسرائيليين الثلاثة فتسبب في حرب 2006، ولم تطرحه حماس عندما رفضت تجديد الهدنة مع إسرائيل ، فتذرعت بها حكومتها لشن حرب غزة سنة 2007. في الحقيقة طريق هزائم العرب والمسلمين منذ اصطدامهم بالاستعمار كان غالبا مفروشا بالقرارات الانفعالية التي يصنعها الفكر السحري ، الذي يطلب من أضغاث الأحلام ان تتحول إلى رؤى صادقة ، ومن التخييلات أن تتحول إلى حقائق. جميع منجزات الحداثة منذ خمسة قرون إلى الآن صنعتها قرارات سياسيّة شجاعة وذكيّة مازالت بالنسبة للنخب العربية برسم الإكتشاف.

أعني واقعية، تستلهم واقع عصرها. عكس القرارات المتهورة والغبية ، التي تُرتجل تحت ضغط الأحداث والتي طالما اكتوينا بنارها ، لأنها تستلهم عادة مخاوف صانع القرار اللامعقولة أو ردود فعله الهاذية، خاصة والبارانويا هي أعدل الأشياء قسمة بين حكام أرض العروبة والإسلام. العالم الذي نعيش فيه معقد وغير قابل للتّوقع، ومقاربته بالقرارات المرتجلة واللامعقولة تساوي الإنتحار بشقّ البطن. أن تكون شجاعا وذكيّا ، هو أن تعترف بأن الواقع والرغبة قلما يجتمعان. أي أن مبدأ اللذة ومبدأ الواقع نقيضان. وهذا ما لم يدركه بعد الإسلاميون والقوميون الذين مازالوا يتفاوضون مع أنفسهم ويغالطونها في حقائق العصر الذي يعيشون فيه.

علاقة الإصلاح الديني بصناعة القرار

هي علاقة وثيقة. صناعة القرار العربية قلما احترمت المبدأ الأول لهذه الصناعة الذي هو التعريف الدقيق، دقة المعادلات الرياضية، للمصلحة القومية والحساب الدقيق للتكاليف والمكاسب أي للخسارة والربح في كل قرار. وتجاهلت المجالات الاستراتيجية الأربعة أعني اصلاح الإسلام والبحث العلمي والتجديد التكنلوجي والتعليم الجيد بالمعايير الدولية. صنع قرار الإصلاح الديني اليوم يفترض التفكير في مخاطر النهاية المأساوية لأي مشكلة تطرح نفسها علينا من أجل تغيير الإتجاه في الوقت المناسب. بقاء الإسلام من دون إصلاح، أي من دون فصل الدين عن الدولة، لتفادي مخاطر الحروب الطائفية والدينية خاصة الحرب السنيّة الشيعيّة التي قد تتحول في إحدى مراحلها إلى حرب ذرية؛ ومن دون فصل الشريعة عن القانون الوضعي ليغدو الوحيد المُطبَّق سيسقط العالم الإسلامي في همجيّة تطبيق العقوبات البدنية التي ينطبق عليها وصف فرويد للمارسات النازيّة بأنّها “همجية ما قبل التاريخ “barbarie préhistorique “.

ومن دون فصل البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني عن الرقابة الدينية سيبقى “الاشتباك بين القرآن والعلم” كما أسماه د. عبد الصبور شاهين دائما؛ ومن دون الفصل بين المؤمن والمواطن سيبقى المسلمون ماثلين أكثر فأكثر في قفص اتهام المجتمع المدني العالمي لهم بالإنتهاك المتكرر لحقوق الإنسان والمواطن، وبمعاملتهم المرأة كحشرة مُؤذية ، وأقلّياتهم كأهل ذمّة ، والعالم كدار حرب موعودة بالجهاد الذي أخذ منذ الآن إسم الإرهاب الإسلامي… والذي تنعكس صورته سلبا على الإسلام نفسه عند الرأي العام العالمي وعند قطاع من المسلمين أنفسهم.

طريق هزائم العرب والمسلمين منذ اصطدامهم بالاستعمار كان غالبا مفروشا بالقرارات الانفعالية

يستمد الإصلاح الديني مشروعيّته من إمكانية قطعه للطريق على مخاطر هذه النهايات المأساوية. ومن تكييف الإسلام مع عصره الذي يتّجه في السيناريو المتفائل إلى حضارة بشرية واحدة تتعرّف على هويتها في القيم الإنسانية الكونية المشتركة وفي الضوابط الأساسية للعيش معًا في عالم مُعَولَم تشابكت فيه مصائر البشرية في السرّاء والضراء إلى درجة أن سؤال الحكومة الإقليمية والحكومة العالمية أو “الكونفدرالية العالمية” كما يسميها الفيلسوف والأنتروبولوغ ادغار موران Edgar Morin أصبح سؤالا مشروعا لمواجهة تحديات يتوقف على رفعها بقاء الحضارة بل وربما بقاء النوع البشري نفسه.

نقاط الضعف في الحالة الإسلامية التي يمكن علاجها بالإصلاح الديني

ما زال الإسلام لم يرفع حتى الآن تحدّي عوائقه الثلاثة التي شخّصها رينان Renan في القرن التاسع عشر : احتقار العلم الوضعي Le dédain de la science ورفض البحث العقلاني la négation de la recherche rationnel في نصوصه بما هي كلام الله المُنزّه عن المساءلة العلمية وفي رموزه بما هم فوق البحث والمساءلة، والخلط بين الروحي والزمني  La confusion entre le spirituel et le temporel. وهي عوائق دينية وذهنية ونفسية تحالفت على كبت الإبداع الديني والسياسي والإقتصادي والعلمي والأدبي والفني؛ مثلا الرسم والنحت والموسيقى مازالت محرّمة في الإسلام. اليهودية التي أخذنا عنها هذه المحرمات الهستيرية تناستها لحسن حظ اليهود. ونحن مازلنا متسمرين فيها. تناست أيضا حد الرجم الدموي الذي أخذناه عنها. بالرغم من عدم وجوده في القرآن وتهافت الروايات عن رجم النبي لزناة… إيران والسعودية و”شباب الشريعة” في الصومال مازالوا يرجمون. الأمير خالد بن سلطان، وزير الدفاع السعودي، منعني سنة 2001 من الكتابة في “الحياة”، التي كانت مصدر عيشي الوحيد. لماذا؟ لأنني طالبت “في الجزيرة” بتدخل دولي لمنع الرجم في إيران، محتجا بأن السعودية هي أيضا ترجم فتكون إذن مشمولة بمطلب التدخل الدولي. رئيس “النهضة”، راشد الغنوشي، اعتبر في مقال وقعه أن العقوبات البدنية الإسلامية كالجلد أرحم من السجون الأوروبية. فلماذا لا يعتبر الرجم أيضا أرحم من السجون الأوروبية؟

عالم الإسلام مازال يمشي على رأسه ونريد “بإصلاح الإسلام” أن نجعله يتعود المشي على قدميه.

صحيح أن جميع الأديان التوحيدية على الأقل تنطبق عليها تهمة رينان، لكن اليهودية والمسيحية قبلتا أخيرا، طوعا أو كرها وبالأحرى كرها، رفع تحدّيات رينان الثلاثة. مثلا كشف علم الأركيولوجيا في إسرائيل على أن ما كان يُظَنّ وقائع تاريخية في أسفار العهد القديم لم يكن إلاّ أساطير مثل الخروج من مصر وشقّ البحر الأحمر بعصا موسى وهيكل سليمان الذي اتّضح أنّه شخصيّة أسطورية، والملك داوود الذي كان يُعتبر شخصية تاريخية اتّضح أنه شخصية نصف أسطورية. لا بأس بهذا الصدد من ترجمة كتاب La Bible dévoilée (الكتاب المقدس وقد تَعرّى) تأليف الاركيولوجيان الإسرائيليّان I. Finkelstein و N. A. Silberman. احتجّ المتعصّبون من رجال الدين اليهودي، لكن العلماء الإسرائيليين لم يُقدّموا للمحاكمة كما حوكم د. نصر حامد أبو زيد في مصر ، ولا صدرت ضدّهم فتاوى بالقتل كما يفعل رجال الدين الإسلامي ، ولا بالطبع اغتيل أيّ عالم منهم كما اغتيل فرج فودة وأيّد اغتياله بتهمة الردّة محمد الغزالي أحد نجوم الإسلام السياسي. مؤخرا طالب مجلس البحوث بالأزهر بمحاكمة سيد القمني وحسن حنفي من أجل أفكارهما. مازلنا نعيد صلب الحلاج وسلخ السهروردي، نطارد التصوف والفلسفة.

ولماذا عجز إسلام الفقهاء عن رفع هذه التحديات ؟ بسبب افتقاده للقدرة على التكيف مع العالم الحديث. ديناميته الأولى الجهادية تحولت إلى عائق وعجز عن اكتساب دينامية جديدة تتطلبها الحقبة التاريخية. هي دينامية التكيف مع جديد التاريخ. عندما يفتقد الدين القدرة على التكيف والدينامية يسقط في الجمود الديني.

فالمقصود بالجمود الدينيهو تحريم السؤال وفرض الأجوبة الجاهزة الصالحة للجميع ولجميع الأزمنة وجميع الأمكنة، هو اليقين الجامد والتفكير الساذج وايمان العجائز. ايمان العجائز يصلح للعجائز ولكنه لا يصلح للباحثين. هو العجز عن التطور وإنتاج الأفكار المجددة. وهو في الوقت نفسه محاربة القلة المجددة التي تظهر من حين لآخر مثل الشيخ نجم الدين الطوفي الحنبلي الذي سُجن وأُتلفت كتبه ، الفلاسفة والمتصوفة الذين راموا إصلاح الإسلام في عصرهم وكلفهم ذلك أحيانا حياتهم مثل السهروردي والحلاج. ومحمد عبده الذي رفض الأزهر لنصف يوم صلاة الجنازة عليه والطاهر الحداد الذي شيع جنازته بضعة أصدقاء…

مازلنا نعيد صلب الحلاج وسلخ السهروردي، نطارد التصوف والفلسفة

على سبيل مثال شخصي, تبرعت بأعضائي وأنسجتي لمن يحتاجون إليها لزرعها. ووهبت جثتي للعلم. لكلية الطب في أي بلد أموت فيه. عندما سلمت وصيتي لرئيسة الممرضات في أحد المشافي الباريسية قالت لي هذا إذا قبلتها كلية الطب التي كثيرا ما ترفض لكثرة المتبرعين. قارن هذا مع تحريم فقهاء الجمود الديني تشريح الجثث. في 1973، كانت كليات الطب السورية تستورد من الصين الجثة بألف دولار. هذا التسمر في أحكام فقهية معادية للعلم هو أحد أعراض عبادة الأموات الفرعونية – كما يعلمنا ذلك تاريخ الأديان المقارن – التي جعلت فقهاء الإسلام يحتقرون الجسد حيا ويقدسونه ميتا. هذه الواقعة وحدها حافز على ضرورة التعجيل بإصلاح الإسلام كلف ذلك ما كلف.

جمال عبد الناصر والسيد حسن نصرالله وصدام حسين: “وماذا في صباح اليوم التالي؟”.

سيد القمني ونصر حامد أبو زيد وحسن حنفي: ملاحقة بسبب آرائهم
راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة الإسلامي التونسي: “العقوبات البدنية الإسلامية كالجلد أرحم من السجون الأوروبية”