كتبت مقالا في أكتوبر 2022 بعنوان « الحرية والصين والإبداع » عما أثير على أمد طويل، ولا زال يثار، عن حتمية سقوط الحضارة الغربية، وأن ليس لديها ما تعطيه للبشرية، وهذا ما تنبأ به الكثيرون، وكانت لهم أسبابهم وبدائلهم، ومن هؤلاء “الإسلامي” سيد قطب “، الذي اختلف عمن سبقه باعتقاده أن البديل عنها هي الحضارة الإسلامية التي ستحل يوما محل الغربية، والأمريكية بالذات!

بقلم: احمد الصراف


ما هي الحضارة؟ تتمثل الحضارة جغرافيا في مجتمع بشري معقد له خصائص تمنعه من الجمود، وتدفعه للتطور الثقافي والصناعي والتجاري، وكانت بديات تكوين الحضارات مع البدايات المبكرة لتأسيس المدن الحضرية، حيث تتطور فيها مع الوقت اللغة وغيرها من أساليب الاتصال المشتركة والبنية التحتية والإدارية، وبقية مؤسسات الدولة، إلى أن يصل الجميع لنظام قريب من المثالية، بحيث تعتبرها الدولة الأخرى قدوة.

بالعودة لبدايات الإسلام، وصولا ليومنا الحاضر، وعلي مدى 1400 عام، لا نجد أيا من تعريفات الحضارة تنطبق عليه، أو على المؤمنين به كدين، أو على مدنه وحواضره بخلاف فترة قصيرة، وفي بقعة جغرافية محددة. وكل من يعتقد أو يحاول إيهامنا وغيره بوجود حضارة إسلامية سيكتشف سريعا خطأ اعتقاده، فقد كانت هناك يوما حضارة في” دار الإسلام “، ولم تكن إسلامية، بمعنى أن الدين لم يكن الدافع ورائها، والدليل أن تلك الحضارة اختفت مع اختفاء العوامل التي خلقتها، كالتنوع العرقي وعظم مساهمات أتباع الديانات الأخرى في الترجمة والنقل والعلوم الحديثة، من زرادشت ومسيحيين ويهود بالذات، الذين عملق في أجواء تتسم بالكثير من الحرية، قبل أن يأتي من يكفر أعمالهم ويزيلها، ويقضي على علمائها، والسبب أن الدين الإسلامي في جوهره مضاد للحضارة. فالإنسان، حسب مختلف النصوص المقدسة، ومن القرآن مباشرة، خُلق لكي يعبد الله في هذه الدنيا الفانية، ويكثر من العبادات، ابتغاء الوصول لحالة الدار الأبدية الباقية، فكيف يمكن لأمة تتعبد طوال اليوم، ومن سن التاسعة وحتى أرذل العمر، وتعيش كامل يومها لآخرتها أن تفكر، أو يطرأ على بالها أصلا، أن تبني حضارة؟ كما أن الكلمة نفسها حديثة نسبية، مثلها مثل كلمة دولة، ولم يرد ذكرها في الكتب القديمة.

تلك الحضارة اختفت مع اختفاء العوامل التي خلقتها

كما يعتقد المسلمون بقوة بأن لا شيء يمكن أن يصيب المسلم إلا ما كتبه الله له. ومعاندة القدر، أو التحوط لما سيأتي، أمر غير مجد في غالبية الأحوال، والإيمان بهذا الأمر دفعهم للاستسلام لوضعه ومنعهم من التقدم. كما أصبح الأمر مربكا أكثر للمسلمين، أو من يفكر بينهم، بعد أن أصبحت الحضارة عالمية، وليست محصورة في بقعة جغرافية محددة. فلو محيت الولايات المتحدة من وجه الأراضي ، فإن غالبية عناصر الحضارة الحالية ستبقى كما هي مناطق عديدة أخرى، بعكس الحضارة البابلية أو المصرية أو الفارسية التي كانت محلية الوجود والتأثير، وفي علي لغة واحدة، غالبا.

لم يعرف عن العرب، والمسلمون تاليا الميل للتدوين، أو تسجيل الأحداث لسباب بديهية إما بسبب غياب مواد التدوين من حبر وورق، وعدم توفر المبنى أو مكان لحفظ تلك المدونات، فهم في ترحال وكر وفر وغزو وتنقل، وبالتالي كان الشعر هو ديوان العرب لمئات السنين، ووعاء الذاكرة، وبالتالي لم يكن غريبا أن المسلمين العرب كانوا آخر أمة تصدر رواية تاريخه، وكان ذلك العام 1913 عندما صدرت رواية” زينب “لمحمد حسين هيكل. كما أن أحداث التاريخ الإسلامي غير معروفة، ولو قريبا من الدقة، بسبب غياب المصادر التي يمكن التعويل أو الاعتماد عليها، وحتى نسخ القرآن الأولى التي يقال بأن الخليفة عثمان جمعها ونسخها وأرسلها لمختلف الأمصار، قبل 1400 ضاعت جميعها، ولم يتبق لدينا اليوم غير أجزاء غير كاملة من القرآن، موزعة بين القاهرة وبرمنجهام وإسطنبول وطشقند وغيرها!

من المفارقات المضحكة، أن من علامات الحضارة الحديثة طريقة كتابة الأرقام، حيث لجأ العالم أجمع للتخلي عن طريقته القديمة في تدوين الأرقام، وأعتمد “الأرقام العربية”، المؤسسة على الزوايا في كل رقم، والتي لم تتردد دول مثل اليابان والصين في اعتمادها كونها عملية أكثر من غيره. كما تم اعتمد الصفر، العربي أو الهندي، الذي يخلو من أية زاوية، ومع هذا خالف العرب العالم أجمع واعتمدوا الأرقام الهندية، مع الصفر كنقطة، وهذا خلق عائقا أمامهم في التقدم في الكثير من العلوم!

لو نظرنا إلى طبيعة وظروف الحياة في الجزيرة العربية اليوم، لوجدنا أنها في غالبيتها لم تختلف كثيرا عما كانت عليه قبل آلاف السنين، خصوصا إذا أزلنا ما جلبته أموال البترول من أدوات وآلات ومظاهر حضرية، كالمركبات والبنايات والمدارس والملاعب والمساكن الفخمة التي تتناثر هنا وهناك، فطبيعة المنطقة لا تزال بشكل عام تتسم بطابع شديد الرتابة والبساطة والتواضع إلى درجة الخشونة القاسية. فحياة الحل والترحال التي اتسمت بها حياة العربي من جهة، ورتابة حياة عرب المدن من جهة أخرى، وآلاف السنين، وجفاف البيئة الناتج عن شح المياه وقلة الموارد والمواد وخلوها من الباهر من الألوان والأطياف، كل ذلك أثر بطريقة أو بأخرى على المسلك والمأكل والمشرب والمسكن ومختلف أنشطة الحياة سواء المعيشية منها أو الترفيهية.

فآلة الربابة ذات الوتر الواحد، هي الوحيدة التي عرفتها المنطقة منذ القدم ولا تزال تستعمل بوترها اليتيم المنسجم مع قلة ما في الطبيعة الصحراوية من أصوات أصلا، إلى جانب آلة الدف البدائية.

في هذه البيئة القاسية والجافة نجد أن الموت مثلا لا يحظى بذلك الاهتمام الذي عادة ما يلقاه في أماكن أخرى. كما لا تتسم طقوس التعزية بأي مظاهر صارخة في وقارها وهيبتها، كما هي الحال في جميع المناطق وحواضر المدن القديمة المجاورة لها ذات الأنهار والشطوط. فوقوع حالة موت مفاجئة لقافلة لا تعني الكثير، حيث يتم الدفع في قبر بسيط وغير عميق في وسط الرمال، ويستمر الترحال،  سواء بحثا عن الماء والكلأ أو في طلب الغزو أو التجارة، وتعود الحياة لرتابتها السابقة، وكل هذا بسبب فقر البيئة وظروف الزمان والمكان التي لا تحتمل الترف أو أو تأخر الركب، فلا ملابس عزاء خاصة ولا شيء عن مرور أسبوع أو شهرأو سنة على الوفاة، كما هو سار الآن في الكثير من الحواضر الإسلامية خارج الجزيرة.

لا يحبذ الإسلام الرسم والترفيه والموسيقي والنحت والتمثيل المسرحي، وساهم فقر البيئة في ترسيخ هذا التحريم، وقضى ذلك على أي تقدم حضاري في هذا المجال، ولم يكن بالتالي غريبا ملاحظة تأخر العرب المسلمين في كل مجالات الفنون والأداب والثقافة.

ولو تفحصنا التعاليم الدينية بشكل عام لوجدنا أنها انعكاس للبيئة التي خرجت منها، وبقيت كما هي في موطنها الأصلي، لكن طرأت عليها تاليا تغيرات في الحواضر الجديدة التي وقعت تحت حكم الإسلام.

كما نجد في الإسلام نصوصا تعيق عملية التحضر أو بلوغ الحضارة وديمومتها، وتتعلق بتراتبية المجتمع، فهناك من لا يزال يعتقد بأن الحكم اليوم لا يمكن إلا أن يكون في من يعود نسله للرسول محمد، وهذا ما حاولت “داعش” وغيرها استغلاله لصالحها. كما أن نصوص القرآن، المنزلة مباشرة من الله تعالى، وهي كلامه غير القابل للتغيير والتبديل، كما يؤمن لك المسلمون، ينص على وجود طبقة من الأحرار وأخرى من العبيد، ولكل فئة أحكامها والقوانين التي تحكم تصرفاتها. وهذا وغيره دفع المسلمين للانعزال خوفا من التأثر بحضارات وأفكار الغير غالبا.

لا يمكن إنكار فضل الفترة القصيرة التي تقدمت فيها العلوم في “حضارة دار الإسلام”، وتأثيرها الإيجابي على الحضارة الغربية. وقد فشل المسلمون منذ يومها في الاستمرار في حظارتهم، وهذا يمكن تفهمه، لكن فشلوا بقدر أكبر، وبصورة ماساوية، في الاستفادة من حظارات الأمم الأخرى، بحجة الخوف نت تأثيرها السلبي عليهم وعلى معتقداتهم.

لو تفحصنا التعاليم الدينية بشكل عام لوجدنا أنها انعكاس للبيئة التي خرجت منها

أية حضارة بحاجة لتراكم المعارف، والإسلام والعرب، وطريقة حياتهم لم تكن يوما في هذا الجانب. كما أن حضارة دار الإسلام، برأي المفكر محمد الصندوق، يستحيل أن تعود، كاستحالة انبعاث الأموات. وما رأيناه من محاولات للنهوض والتقدم، هنا وهناك، بعد ألف عام تقريبا من الخمود والجمود، اتسمت بطابع المحلية، وما واجهتها من معوقات. فالنهضة الحضارية تحتاج ترابطا متزامنا بين النهضة الاجتماعية والنهضة العمرانية والمؤسساتية. الترابط بين التطور الاجتماعي والمؤسساتي مهمة غاية في التعقيد وتحتاج مدى زمنيا كبيرا من الاستقرار والتوافق.

وبالتالي ليس هناك مجال لسلامة أفكار وآراء أصاحب الفكر الشمولي، ومنه الفكر الإسلامي المعاصر، في توقعهم بسقوط الغرب مقابل نهضة إسلامية عالمية شاملة تعيد سلطة السماء إلى الأرض، من دون وجود تفسير منطقي أو علمي يبرر السقوط المتوقع، هذا بخلاف افتقاد المجتمعات العربية والإسلامية لأبسط ضروريات الاعتماد على النفس في إي مجال حيوي، مع عجز تام عن مجابهة التحديات المعاصرة على اختلافاتها؟

مواضيع قد تهمك

العرب والإسلام

كما ساهم نظام الإرث الإسلامي، الذي يجبر الورثة عن تقاسم تركة مورثهم فورا، بما في ذلك بيع المصانع، والمحال والعقارات، وتوزيع اثمانها على الورثة، وهذا أدى لتفتت الثروات، وإعاقة نشوء البيوتات الأسر التجارية والصناعية الضخمة، والأثر السبي الحضاري لهذا الأمر.

ويمكن أن نضيف أن الحضارة الغربية التي أخذت طريقها بالتحول للعالمية لم تدعي المثالية، بل اكتفت بأن تكون عالمية، والأكفأ في مواجهة التحديات من أجل البقاء، فاصبحت نموذجا يحتذى، خاصة أنها لم تدعي يوما الجمود والثبات المطلق، فكل شيء فيها قابل للتغير لمواجهة التحديات، وهذا هو منطق البقاء، وهذا هو جوهر اختلافها مع العقائد الجامعة والغير قابلة للتطور، كالإسلام!

« تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية… وهذا واضح كل الوضوح في العالم الغربي، الذي لم يعد لديه ما يعطيه للبشرية من ’القيم‘ »

سيد قطب، بعد عودته من أمريكا 1952

كانت الحضارة الفارسية ، مثلها مثل الحضارة البابلية والمصرية ، محلية في وجودها وتأثيرها

نظام ‹Seven Segment Display › لتمثيل الأرقام