العنصر الاجتماعي و الثقافة الاجتماعية التي تحركه لها الدور الكبير في البناء الحضاري المعاصر. قد تستطيع الموارد المالية النفطية احداث تطور عمراني كبير و في وقت قياسي و لكن مشكلة بناء ثقافة اجتماعية معاصرة على انقاض ثقافة بعيدة عن المعاصرة مسالة ليست هينة.

بقلم: محمد عزالدين الصندوق


يرى مُعظم مُرخي وفلاسفة التاريخ المعاصرين بان الحضارة تتميز عموما بظهور عدة مميزات اجتماعية وفكرية وثقافية من أبرزها:

  1. نمط معقد من التركيب الاجتماعي (الهرمي) يؤدي لقيادة المجتمع من قبل النخبة. هذه الميزة تبين ارتباط الحضارة بالسلطة والتركيب الاجتماعي[1].
  2. وجود او ظهور نمط من الرموز التي تشكل وسيلة ترابط مَعرفي بين أفراد المجتمع (رموز كتابية). وهذا ما يبين الارتباط بين التدوين والحضارة. ومن ثم تناقل الأفكار ونموها [2].
  3. ظهور الاحساس بالانفصال عن الطبيعة ومن ثم محاولة الهيمنة على الطبيعة [2]. انفصال الذات عن الطبيعة ومحاولة السيطرة على قوى الطبيعة لصالح المجتمع يُمكن الحضارة من الصمود امام مختلف التحديات.

تظهر هذه المميزات بوضوح في الحضارات القديمة المعروفة. ولكن عَرفت المجتمعات القديمة انعزالا حضاريا كبيرا نتيجة المساحة الجغرافية الواسعة للأرض وبساطة وسائل النقل المختلفة (تكنولوجيا).  فرض هذا الوضع التاريخي انغلاقا حضاريا وتميزا منفردا لكل تجمع حضاري. فظهرت حضارات وادي الرافدين والنيل والفينيقية والصينية والاغريقية والكثير من الحضارات الأخرى ذات الملامح والمزايا المتميزة والفريدة لكل حضارة. الخصوصية الحضارية سمة من سمات الانغلاق بسبب العامل الجغرافي. وهذه بلا شك ظاهرة طبيعية. وهنا نجد ان الناتج الثقافي والامكانيات التكنولوجية التي خلقتها الحضارات بقت محدودة التداول ضمن مجتمعها نتيجة بساطة إمكانيات التوسع الجغرافي. نتيجة الوضع هذا فان المساهمين في البناء الحضاري المنعزل هم مِن مَن تتوفر لهم إمكانية التنقل الجغرافي وهذا يعني ان بُناءة الحضارات المنعزلة كانوا من الأفراد المحليين في الغلب.  وعندما كانت تنهار حضارة معنية لسبب ما تختفي معالمها المميزة التي تفردت بها.  ورغم هذه الاعاقة الجغرافية فقد كان للاحتلالات العسكرية دور كبير في انتقال المعرفة وتجاوز إعاقة الجغرافية.

حلم سقوط الغرب داعب و ما يزال يداعب مخيلة الكثير من المؤدلجين من اصاحب الفكر الشمولي

ولكن هناك نوع اخر من الانعزال الحضاري لا يعود سببه للعامل الجغرافي بل بسبب الإصرار على المحافظة والانغلاق على نمط فكري معين. ظهر هذا النمط من الانعزال الحضاري في الحضارة العربية الإسلامية. لقد تشكلت ملامح نمو الحضارة العربية الإسلامية خلال القرون الثلاثة او الأربعة الأولى بعد ظهور الإسلام لتتراجع بعدها. نستطيع ان نجد المميزات الحضارية المذكورة أعلاه في فترة النمو الحضاري. الا ان السمة الثالثة والتي تستند أساسا على محاولات التطور الفكري والعلمي لمجابهة التحديات أخذت بالتراجع [3]. وبقت سمة التراجع الحضاري بارزة حتى الحرب العالمية الأولى.

لذا تميزت هذه المجتمعات بالمحافظة نتيجة الانغلاق الفكري والانعزال الحضاري وتميزت  بالجانب الديني فقط . لقد خمن أرنولد توبنبي  (1889-1975) سقوط الحضارة العربية الإسلامية بحدود القرن الحادي عشر الميلادي [4] وهذا مقارب لما سبق وان وجدناه في دراستنا الإحصائية [3].  حظي الدين بأهمية كبيرة في فكر توينبي وكما سنجد لاحقا بان توينبي توقع بعودة الحضارة الإسلامية. على اية حال لقد تعرض توينبي لنقد شديد بسب استخدامه المتكرر للأساطير والاستعارات [metaphors) [5). ومن ابرز نقاده بيتر جيل (Pieter Geyl) الذي قال عن منهجه البحثي بانه “تخمينات ميتافيزيقيه اُلبسَت بتاريخ” (“metaphysical speculations dressed up as history”) [6]

سبق لبعض الغربيين في القرن العشرين من أمثال  زجريد هونكة (1913-1999) [7] بمنح الحضارة العربية الاسلامية نوعا من الفضل على الحضارة الغربية. في الواقع الحضارات القديمة رغم انعزالها الجغرافي كانت متفاعلة من خلال عملية انتقال المعرفة الإنسانية بصورة بطيئة جدا لما هو عليه الحال الان لتشكل بمرور الزمن تراكما مشابها لتراكم طبقات كرة الثلج. المعرفة الإنسانية المتراكمة عبر الزمن يشكلها لاعبون لا ينتمون لحضارة واحدة بل يتبادلون كرة الثلج فيما بينهم. فجذور الحضارة العربية الإسلامية مختلفة ويعود الفضل بها لحضارات سابقة (سورية فرعونية يونانية فارسية…) والشيء نفسة مع الحضارة الغربية.  لقد كان هذا الطرح في زمن لا يُظهر اى مَعلمٍ لتفوق الحضارة العربية الإسلامية مما قاد الى نقد ما طرحته هونكه.

البشرية الان تسير باتجاه ثقافة وحضارة عالمية

من خلال تبنيه لافتراض التحدي والاستجابة اعتقد أرنولد توينبي بان الحضارة العربية ستعود من جديد [8]. هذه الطروحات ما هي الا نتاج افتراضات محددة لم تتناول التطور الشامل والجذور الفكرية لهذه المجتمعات. الانبعاث الحضاري ليس باقل سهولة من انبعاث الأموات كلاهما عمليتان مستحيلتان علميا. الحضارة المعاصرة تعتمد أساسا نوعية العنصر البشري والبناء المادي للمجتمع. كانت هناك محاولات نهضة بعد الحرب العالمية الأولى واتسمت جميعها بطابع المحلية في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية. كل تلك المحاولات عانت وما زالت من الكثير من المشاكل والصعوبات ذات الطابع الذاتي لتلك المجتمعات. النهضة الحضارية تحتاج ترابط متزامن بين النهضة الاجتماعية والنهضة العمرانية المؤسساتية. الترابط بين التطور الاجتماعي والمؤسساتي مهمة غاية في التعقيد وتحتاج مدى زمني كبير من الاستقرار والتوافق الاجتماعي. القدرة على رد التحدي الحضاري التي طرحها توينبي تحتاج أنماط اجتماعية مؤهلة لزمنها لمجابهة التحدي. لذا العنصر الاجتماعي والثقافة الاجتماعية التي تحركه لها الدور الكبير في البناء الحضاري المعاصر. قد تستطيع الموارد المالية النفطية احداث تطور عمراني كبير وفي وقت قياسي ولكن مشكلة بناء ثقافة اجتماعية معاصرة على انقاض ثقافة بعيدة عن المعاصرة مسالة ليست هينة. ان التجارب السابقة لهذه المجتمعات تؤكد بما لا مجال للشك فيه من ان شروق الحضارة العربية او الإسلامية من جديد ليس الا حلما أيديولوجيا بعيدا عن الواقع العلمي ان لم يكن حلما مستحيل التحقق.

وربما يكون الانعزال الحضاري قبل الحرب العالمية الأولى والتراجع الحضاري خلال فترة الانعزال هو السبب الأساس الذي لم يُمكن هذه المجمعات من امتلاك إمكانية المواجهة الحضارية الإيجابية بل المواجهة السلبية. وهذ ما قاد الى نوع من التصادم الحضاري وحسب مصطلح هُنتنكتون ((Huntington) [9. وهنا تبدو الحضارة الغربية وكأنها المضاد الحضاري في طروحات المفكرين الإسلاميين خلال القرن العشرين.

ان مفهوم الحضارة الغربية قد يكون مترادفا مع مفهوم الثقافة الغربية. تمتد الجذور التاريخية للحضارة الغربية للإمبراطورية الرومانية الغربية مرورا بالعصور الوسطى ومن ثم عصر التنوير والانبعاث والثورة الصناعية… لا شك في ان القيم والأفكار والإبداع العلمي والفني هي ناتج مميز شكلَ ملامح حضارة شاركَ في تأسيسها مجمل المجتمعات الغربية. قادت التحولات التاريخية الكبرى الى هذا النمط الحضاري المتفرد. لقد قاد نمط التطور الفكري والثقافي الى نجاحات كبيرة وهائلة لهذه الحضارة مما ساعد في بسط سلطتها على الكثير من الشعوب. منذ بداية القرن العشرين تناول البعض من المفكرين إمكانية سقوط الحضارة الغربية كما سبق وان سقطت حضارات قبلها.

من ابرز المفكرين الذين تنبؤا بحتمية سقوط الحضارة الغربية اوزولد اشبنجلر(1880-1936) [10] الذي بنى توقعه على أساس افتراضي مفاده ان اية حضارة تمر بذات مراحل النمو البيولوجية وبذلك لا بد من مرحلة النهاية والموت. كان ذلك الطرح في بداية القرن العشرين. من جانب اخر توقع الفكر الماركسي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حتمية سقوط نمط الإنتاج الغربي (الراسمالي) وهنا جاء التوقع على أساس افتراض فلسفي [11]. رغم اختلاف التفسير في أسباب السقوط الا انه قد يكون طرح موضوعة سقوط الحضارة الغربية الذي توقعه اشبنجلر [10] قد جاء متفقا الى حد ما مع توقعات الفكر الماركسي الاقتصادي التي رأت حتمية تغير النمط الغربي باتجاه النظام الشيوعي مع تطور وسائل الإنتاج و…لقد كان الطرح الماركسي في قمة الإبداع المنطقي ولكن  دراسة الواقع لا تعتمد المنطق الفكري المجرد لذا سقطت التجربة الشيوعية ولم تسقط المرحلة التاريخية الرأسمالية !

ولكن حلم سقوط الغرب داعب وما يزال يداعب مخيلة الكثير من المؤدلجين من اصاحب الفكر الشمولي. الفكر الإسلامي المعاصر بمختلف تياراتها يتعالى من خلال طروحات هي اقل بكثير من براعة المنطق الماركسي ويتوقع سقوط الغرب مقابل نهضة إسلامية عالمية شاملة تعيد سلطة السماء الى الأرض ومن دون وجود تفسير منطقي او علمي يبرر السقوط المتوقع. وهناك من مازال يحاول إعادة تحليل نظرية اشبنجلر ليثبت انها ما تزال قائمة وان السقوط قادم. من جهة أخرى هناك مَن يحاول التشبث بفرضية توينبي التي قالت هي الأخرى بسقوط الحضارة الغربية ولكن هذا السقوط ليس حتميا كما قال اشبنجلر. ومما يزيد الاهتمام بطروحات توينبي لدى المؤدلجين الإسلاميين او القوميين العرب هو توقعه بانبعاث الحضارة العربية الإسلامية التي قال بسقوطها بحدود القرن الحادي عشر الميلادي. أي ان الانبعاث سيكون بعد تسعة قرون تقريبا. ان شرط الانبعاث عند توينبي هو القابلية على مواجهة التحديات. فهل هذه المجتمعات التي تعتمد في ابسط ضرورياتها على الاستيراد وتفتقر كليا للبنى التحتية اللازمة للمجتمعات المعاصرة كما تفتقر للفكر الاجتماعي المعاصر بقادرة على مجابهة التحديات المعاصرة على اختلافها؟

أخذت الحضارة الغربية بالتغلغل عالميا و في كل المجتمعات و منذ ثلاثة قرون تقريبا

نحن الان في عصر التكنولوجيا والعولمة  [12] لذا نرى ان التحاليل الفكرية القديمة لم تعد مناسبة الان وبالتالي نرى بان الحضارة الغربية والحضارات الأخرى في طريقها الى التحول. لقد كسرت التكنولوجيا المعاصرة حدود الانعزال الحضاري الجغرافي الكبير وهذا ما يميز عصر العولمة. منذ القرن الماضي بدأت بالظهور بدايات انهيار الانعزال الجغرافي للحضارات والتي أصبحت في مواجهة مباشرة مع بعضها البعض كما يرى هُنتنكتون [9]. أخذت الحضارة الغربية بالتغلغل عالميا وفي كل المجتمعات ومنذ ثلاثة قرون تقريبا ولكن تسارع التطور التكنولوجي سهل من إمكانية تبنيها واحتضانها من قبل بعض المجتمعات وبالتالي نجد ان الحضارة الغربية الان في طريقها بالتحول الى حضارة عالمية نتيجة للتطورات التكنولوجية. هذه الحضارة الجديدة هي حضارة مُتحولة بدأت من الغرب كناتج حضاري انساني كبير ومن ثم انتشرت لتتطور عالميا. ملامح الحضارات الحديثة مثل اليابانية والصينية و …ما هي الا نماذج محلية مُعدلة نتيجة الحضارة الغربية. وهنا قد نستطيع القول بان الحضارة الغربية نتيجة قدرتها على التوطن والتكيف استطاعت هي الأخرى ان تتحول عالميا.

الوضع المضطرب الذي تعيشه معظم المجتمعات التي كانت معزولة حضاريا قبل الحرب العالمية الأولى (مثل المجتمعات العربية والإسلامية) ما هو الا ناتج انكسار حاجز الانعزال والاندفاع الحضاري الهائل الذي يصعب السيطرة عليه وهذا ما قاد الى صراع اجتماعي وتخلخل القيم.

الحضارة الغربية التي أخذت طريقها بالتحول عالميا لا يعني انها نموذج مثالي. المثالية حالة افتراضية وليس هناك ما هو مثالي الا ضمن تصورات أيديولوجية او لتقريبات علمية هدفها التبسيط. ولكن الحضارة الغربية هي الأكفأ في مواجهة التحديات من اجل البقاء. ليس هناك من حالة ثبات مطلق فكل شيء قابل للتغير لمواجهة التحدي وهذا هو منطق البقاء.    

البشرية الان ومن خلال التفاعلات المختلفة (سياسية، اقتصادية، فكرية….) تسير باتجاه ثقافة وحضارة عالمية ضمن بعض الخصوصيات المحلية التي ربما ستزول لاحقا. هذه الحضارة الجديدة ستكون على الأغلب الحضارة الغربية المُعدلة.

  1. William A. Haviland, Harald E.L. Prins, Bunny McBride, Dana Walrath, Cultural Anthropology: The Human Challenge. Cengage Learning; 14 edition, 2013, p.250. 
  2. Fernández-Armesto, Felipe, Civilizations: Culture, Ambition, and the Transformation of Nature, Simon and Schuster, 2001.
  3. Sanduk M, Growth of science under the influence in Arabic-Islamic and Western Civilisations, 700-1900 (Statistical Models), Pittsburgh University, Philosophy of science archive, 2012. http://philsci-archive.pitt.edu/9012/
  4. Toynbee A, Study of History, The Breakdowns of Civilization, 1939, Vol. V, p.37.  
  5. Bod R, A New History of the Humanities: The Search for Principles and Patterns from Antiquity to the Present, 2013, Lynn Richards (Translator), Oxford University Press, p.262.
  6. Geyl P, Arnold Toynbee and Pitirim Sorkin, The pattern of past: can we determine it? Greenwood, 1949.
  7. Hunke S, Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe, Fischer Taschenbuch, Vlg. 2001.
  8. Toynbee A, An Historian’s Approach To Religion, Oxford University Press, London, 1956, pp.193-203.
  9. Huntington S, ‘The Clash of Civilization?’, Foreign Affairs, 1993
  10. Spengler O, The Decline of the West. Ed. Arthur Helps, and Helmut Werner. Trans. Charles F. Atkinson. Preface Hughes, H. Stuart. New York, Oxford UP, 1991.
  11. Pannekoek A, The theory of the collapse of capitalism, Ratekorredspondenz, June 1934. Translated: by Adam Buick in Capital and Class, Spring 1977; https://www.marxists.org/archive/pannekoe/1934/collapse.htm
  12. Sanduk M., ‘Is the Technology a New Way of Thinking?’, The Journal of Technology Studies, Volume XXXVIII, Number 2,  2012. http://scholar.lib.vt.edu/ejournals/JOTS/v38/v38n2/sanduk.html

أرنولد توينبي: لم تتناول افتراضاته الجذور الفكرية للمجتمعات

يحلمون بسقوط الغرب
أوزوالد اشبنجلر: كان افتراضه أن الحضارات تمر بنفس مراحل النمو البيولوجي