لقد توقّفت الأوبئة في العالم الإسلامي بفضل العلم الغربي والطب الاستعماري، وهذه حقيقة أخرى نخشى أن نصارح بها أنفسنا. لكن إلى حدّ القرن التاسع عشر كانت السيطرة بيد ورثة ابن حجر العسقلاني. لنعد إلى تونس التي فقد فيها ابن خلدون صغيرا والديه بسبب الوباء سنة 1348 ولنتقدم خمسة قرون كاملة احتكر الفقهاء خلالها المجال الثقافي.

بقلم: د. محمد الحدّاد


فقد حلّ بتونس سنة 1818 وباء ضخم. وينقل المؤرخون أنّ طبيبا من أصل أوروبي نبّه منه حاكم تونس محمود باي قبل انتشاره فأمر محمود “بضربه وسجنه كالمجرمين” كما كتب المؤرخ ابن أبي الضياف ([1]).

ثم لمّا فشا الوباء استفتى الحاكم الفقهاء فكتب له الشيخ محمّد بن سليمان المناعي فتوى مطوّلة دعاها ”تحفة المؤمنين ومرشدة الضالين‟ (مخطوطة) عرض له فيها اختلاف القدامى بين رأيين، رأي الفقهاء الذين يعتبرون الوباء من وخز الجن ورأي الأطباء الذين يعتبرونه من فساد الهواء. ومع أنّ المناعي كان يعيش في القرن التاسع عشر فقد رجّح في النهاية رأي الفقهاء مستندا إلى ابن القيّم وابن حجر والسيوطي وما خلفوه من أدلّة نقليّة و”عقليّة‟، وحسم الجدل بقوله:

”الحقّ في إبطال قول الأطباء إنما هو النقل، حيث ثبت في صحاح الأخبار عن النبي (ص) أن سبب الطاعون هو وخز الجنّ فلا يمكن أن نلتفت بعد ذلك لغير ما أخبر به الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وإذا جاء النقل بطل العقل‟.

ويتأكد بطلان قول الأطباء حسب رأيه

”بالحجج النقلية والعقلية التي ارتضاها علماء الدين وسادات المسلمين كابن الجوزي وأضرابه الذين اجتثوا بنور عقولهم شبهة الأطباء وقطعوا عروق شجرة أوهامهم بحيث لا يخفى على من اطلع عليها ما في قول الأطباء من فساد، إلا من حجبه عن ذلك ظلام المكابرة والعناد‟.

ولما رجح عند الشيخ هذا الموقف نقل للحاكم الذي أمر بضرب الطبيب مجموع ما ترك الفقهاء القدامى في الموضوع. وسيبدأ رسالته بباب ”في فضل الطاعون‟! وسيستعيد الروايات التي تجعل الوباء شهادة للمسلم ورحمة به ويفصل الآداب التي تقضي بأن يستقبله المسلم بقراءة القرآن وسرد الأذكار والصلاة على النبيّ. ويشدّد المناعي على منع الخروج من الأرض الموبوءة باعتباره ذلك من قبيل الفرار من القدر ولسبب آخر هو أنّ فرار الأصحاء يؤدّي إلى قطع صلة الرحم وترك المرضى والمحتاجين دون رعاية.

ويضيف الشيخ إلى نقول سابقيه فتواه هو في مسألة جديدة لم ترد فيها فتاوى من القدامى وهي مسألة الحجر الصحّي (عزل القادم من مكان موبوء مدّة معينة لمنع انتقال العدوى، وهو إجراء فرضه الأوروبيون على الرحلات البحرية). وهذه الطريقة التي ابتدعها الأوروبيون اتضح أنها مجدية في التوقّي من الأوبئة. لكن الشيخ يفتي ببطلانها ومنعها ويكتب:

”اعلم أنّ الذين يستعملونها فريقان:

الفريق الأوّل أوجبوا اعتزال جميع الناس وحرموا الملاصقة والمساس، سيّان عندهم في ذلك المريض بالطاعون والصحيح والسليم والجرح، فقد ألزموا أنفسهم المكث في الدور ومنعوا في صناعتهم الخروج من القصور وتركوا لذلك حضور الجمع والجماعات معتذرين بخوف وقوع الآفات.

والفريق الثاني فعلوا ما فعله الفريق الأوّل إلاّ أنّهم لا يتركون الجمعة والجماعات وربما حضروا الجنائز إلاّ أنّهم يتحفظون من الملاصقة والدنو من الناس جهدهم‟.

وهكذا كانت صلاة الجمعة هي الفيصل في قضية موت البشر وحياتهم، فلا يمكن في رأيه أن تترك هذه الصلاة وهي من الثوابت من أجل اتقاء العدوى التي لم يقم عليها دليل فهي من الأمور الوهميّة كما يقول. وتقاس على الجمعة صلوات الجماعة الأخرى وصلة الرحم. ثم هناك سبب آخر لا يقلّ أهميّة هو التشبّه بالنصارى، ومن تشبه بقوم فهو منهم كما يقول. والأفضل أن يموت الإنسان مسلما من أن يعيش متشبها بكافر.

تقدّم التاريخ خمسة قرون وظل الإفتاء معتمدا على نفس المرجعيات والآليات. وللعلم، إن وباء 1818 بتونس لم يؤدّ إلى موت ”نصرانيّ‟ واحد من الجالية الأوروبيّة التي كانت مقيمة بالبلد لكنّه أدّى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا بين المسلمين. أمّا محمود باي فلم يمت بالوباء إذ قرّر بعد ضرب الطبيب واستصدار الفتاوى أن يسلك سلوك الجالية الأوروبية وينقذ نفسه من خطر الموت بالتوقي من العدوى، فيما ظلت فتاوى الفقهاء تعبّد طريق الموت للشعب.

مواضيع قد تهمك

من أجل تجريم التكفير

كم طفلا وكم امرأة ورجلا منذ الطاعون الأعظم في القرن التاسع إلى الأوبئة الحديثة التي استمرّت في العالم الإسلامي إلى حدّ القرن التاسع عشر كان يمكن له التوقّي والنجاة لولا ثقافة تمجيد الموت التي نشرها الفقهاء فيما ليس من مجال فهمهم؟ إنّ عددهم لا شكّ سيتجاوز الملايين وسيفوق ضحايا الحروب الصليبية والاستعمارية وغزوات التتار والمغول مجتمعة.

والأموات ما زالوا بيننا ينيرون من ظلمات قبورهم الطريق للأحياء، والفكر المتحجّر لابن حجر ما زال فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، وأمثال المناعي كثيرون بيننا ”علماء‟ بموروث تجاوز حدوده الطبيعية منذ قرون عديدة وما زال مصرّا على أن يمثل الفكر والدين والثقافة والهويّة. وقد اضطرّت الحكومة الباكستانية سنة 2007 أن تلغي حملات التلقيح بسبب ضغط مجموعات إسلاميّة توجّست أن تكون اللقاحات موادّ أعدّها الغرب لإضعاف المسلمين وتقليل النسل وبينهم، ورأينا مواقف مماثلة بمناسبة وباء الكوفيد مؤخرا. فكأن لا جديد تحت الشمس!


[1]  أحمد بن أبي الضياف: إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، طبعة الدار العربية للكتاب، تونس، 2001، الجزء الثالث، ص 127.

ومن الجدير بالذكر أنّ القدامى قد اختلفوا في قضية الوباء وما يترتّب عليها من أحكام، وكذلك اختلف المحدثون، فالشيخ محمد بيرم الرابع، وهو فقيه تونسي معاصر للمناعي، كتب رسالة تختلف في مضمونها عن رأي زميله، والمهمّ بالنسبة إلى موضوع كتابنا ليس متابعة اختلافات الفقهاء في القضيّة ولكن بيان ضرر أن تكون هذه القضيّة ومثيلاتها من اختصاصهم. فالمفتي ينبغي أن لا يفتي إلاّ في مجال اختصاصه وهو القضايا الدينية البحتة. ومخالفة هذه القاعدة تؤدّي إلى كوارث، كما يتضح من خلال المثال المعروض.

الصورة الرئيسية: مسلمون يقتحمون مرقد الإمام الرضا في مشهد وضريح فاطمة المعصومة في قم احتجاجًا على الإعلان عن إغلاق المزارات كإجراء احترازي من COVID.

خطيب يبرهن على أن فيروس كورونا “ابتلاء للمؤمنين وعقوبة للمخالفين” وأن من مات في الوباء له أجر الشهادة – شباط 2008

محمود بن محمد، الزعيم السابع للأسرة الحسينية وحاكم تونس من 1814 إلى 1824.