“الحضارة الإسلامية… حضارة فقه”، يقول الجابري[1]. لكن، لربّما كان آية الله محمد علي الطباطبائي أكثر دقة في قوله: “الحضارة الإسلامية إنما هي حضارة النص، وعلى رأسه نص القرآن الكريم”[2]. غير أن السلطة المعرفية للنص الديني لم تترك للعقل العربي الإسلامي من هامش لحرية التفكير خارج نطاق تفسير وتأويل “النص التأسيسي”.

بقلم: سعيد ناشيد


الرّاجح أن لحظة تدوين القرآن تمثل نسق الإسناد المعرفي والفعلي للعقل الإسلامي، خلاف ما يسميه الجابري وقبله أحمد أمين، بـ “عصر التدوين”، الذي تم بين منتصف القرن الثاني ومنتصف القرن الثالث الهجريين.

ليس تاريخ الثقافة الإسلامية سوى تاريخ تفاسير وتأويلات وشروحات ظلّت تحوم، إراديا أو لا إراديا، حول “نص تأسيسي” كان ولا يزال يمثل نسق الإسناد المعرفي، ومن ثم يمثل عقال النظر العقلي ولجام الاجتهاد الشرعي. 

وفي النهاية، بعد استنفاذ كل ممكنات التفسير والتأويل خلال مطلع العصر الحديث، طبيعي أن يتوقف التاريخ الإسلامي عن الحركة، ويصاب بالعقم والعطالة.

وإذ يظن محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، أبو يعرب المرزوقي، محمد شحرور، وكثيرون غيرهم، أن معركة تأويل النص الديني لا تزال مفتوحة على ممكنات الاستئناف، وهي مفتوحة حتى أمام القوى العقلانية والعلمانية لتخوض فيها وتدلو بدلوها، إلا أني خلاف ذلك الظن، أفضل اقتراح فرضيات عمل مختلفة.

ماذا أقترح؟

بكل نزاهة وتجرّد، وبعد كل هذا التاريخ الطويل في محاولات تأويل خطاب قرآني، صيّره المسلمون نصا، ثم صيّروا النص نصا مغلقا، بل سلطة مطلقة، يتوجب الاعتراف في الأخير بأنّ القرآن الكريم قد استنفد ممكنات التأويل لغاية العصرنة والتحيين، وما عاد بوسعنا أن نضيف إليه تأويلا جديدا، سواء باعتماد آليات التأويل الباطني ( الفرق الباطنية )، أو التفسير الظاهري ( ابن حزم )، أو التفسير الإشهادي ( ابن عربي )، أو التفسير البلاغي ( الزمخشري )، أو التفسير الفلسفي ( فخر الدين الرازي )، أو تفسير القرآن بالقرآن ( محمد حسين الطباطبائي ) أو التفسير الاجتماعي ( محمد عبده )، أو التفسير الحركي ( محمد حسين فضل الله )، أو التفسير الاصطلاحي ( محمد شحرور )، أو نحو ذلك من التفاسير الكثيرة.

فمن خلال كل الأوجه المتاحة والممكنة، يبدو أن عقال التأويل بلغ أقصى مداه الممكن من التمطيط والتمديد، وما عاد يتيح لنا خطوة إضافية نحو عالم الحداثة السياسية والحريات الفردية وحقوق الإنسان. على سبيل الاستدلال، لسنا اليوم بقادرين على تصور أي تأويل حقوقي ومساواتي للآية (  للذكر مثل حظ الأنثيين ) سورة النساء، الآية 11، إلا أن يكون تبريرًا لظروف نزول الآية بالنظر إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي القائم زمن الرّسول، مثلما يفعل بصيغ مختلفة كل من أبي يعرب المرزوقي، محمد عابد الجابري، ومحمد شحرور، وذلك لأجل رفع الحرج عن حكم الآية.

إلاّ أننا بهذا المنطق التبريري نقف موقف التماس الأعذار والبحث عن ظروف تخفيفية لأحكام قرآنية تبدو مجحفة بمقاييس الضمير الأخلاقي المعاصر. بل لعلها تنكأ الجرح الذي تصطلح عليه رجاء بن سلامة بـ “جرح التفضيل الإلهي”[3]. ذلك الجرح الذي ليس بوسع أي تأويل جديد بلسمته، عدا اللجوء إلى التلاعب بمعاني الألفاظ، والذي من شأنه أن يحقق الإمتاع من دون الإقناع. 

القرآن الكريم قد استنفد ممكنات التأويل لغاية العصرنة والتحيين

لابد من مجابهة السؤال، ما مآل العلاقة بيننا نحن مسلمي القرن الواحد والعشرين، وبين “النص القرآني”؟

القرآن الكريم كلام نتلوه ونرتله في صلواتنا ونتعبّد به. هكذا كنا ولا نزال نفعل منذ أربعة عشر قرنا من الزمن. وهذا لا يطرح أي مشكلة دينية أو سياسية. لكننا حين نضفي عليه صفة الدستور الإلهي، فإننا لا نفعل سوى أن نقيد آراءنا ومواقفنا السياسية بمفاهيم وتصورات تنتمي إلى عصر القدامة.

ولعل التعصب الذي يبديه بعض المسلمين حول المفاهيم السياسية ( وتحديدا ما قبل السياسية ) الواردة في النص القرآني، ليس أكثر من تغطية على عسر هضم أحكام نص صيّرناه “مقدسا”، مع أنه يناسب المستوى النفسي والاجتماعي واللغوي لإنسان العالم القديم. ولسنا نجد من حيلة لتحيين أحكامه سوى التحايل عليها وتعطيل بعضها أو أكثرها. ثم يسكت الإسلاميون البراغماتيون عن هذا التعطيل أو يسمونه تعطيلا مؤقتاً لغاية تحقيق يوتوبيا المجتمع المسلم في ميقات يوم غير معلوم، أو هكذا يقول لسان حال جلّ الإسلاميين اليوم.

لكن مثل هذا الإخراج المهدوي الخلاصي لا يخفف شيئا من الإحراج طالما نعتبر النص وصايا إلهية مطلقة الصلاحية التشريعية في كل زمان ومكان. 

لذلك، فداخل حلبة النص القرآني عادة ما ينهزم أنصار العقل أمام أنصار النقل بفارق كبير في النقط. بل حتى أنصار النقل الاجتهادي ينهزمون أمام أنصار النقل الحرفي. اللهم إن قرر الجميع تحييد النص عن الصراع السياسي، وهذا خيار عملي لكنه يحتاج لسند اجتهادي. 

مواضيع قد تهمك

ليس القُرآن هو الوحي

بكل تجرّد، مشكلتنا مع القرآن الكريم أننا لم نعد نعيش في زمن السبي والفيء والجزية و( ما ملكت أيمانكم )، لم نعد نعيش في زمن ( النفاثات في العقد ) و( عتق رقبة ) وزواج أو طلاق ( اللائي لم يحضن ) ، إلخ. لذلك فقد أصبحنا إزاء معظم الأحكام والمفاهيم والتصورات القرآنية نشعر بنوع من الحرج والارتباك. ندرك غربة “النص المقدس” في العالم الجديد. وأحياناً نناور باللغة الى حد اللغو كما يفعل البعض. في المقابل، يبدو الغلاة كأنهم صادقون ومصدقون لما بين أيديهم من صريح النص. 

إزاء هذا الموقف، لا يملك “المعتدلون” من فرصة للتخفيف من الحرج سوى ادعاء أن تلك الأحكام التي تحاور مجتمعا بدويا من مجتمعات العالم القديم، تحتاج إلى اجتهاد لا يزال مفتوحا على أفق غير منظور. أو أنهم غالبا ما يلوذون بالصمت. 

…..

في المقالات التالية ، سنعدد خمس فرضيات بديلة لما هو النص القرآني في الواقع.


[1] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1984، ص : 96.

[2] آية الله محمد علي الطباطبائي، مجلة  البصائر، بيروت، العدد 22، شتاء 97، ص : 127.

[3] رجاء بن سلامة، جرح التفضيل الإلهي، موقع الأوان، 01 آذار (مارس) 2007.

محمد شحرور: تبريرًا لظروف نزول الآية لأجل رفع الحرج عن حكم الآية