في العقود الأخيرة، استفحلت فتاوى التكفير وتعدّت الحدود المعقولة وأصبحت تهدّد الأفراد والجماعات. وعبثا يحاول رجال المؤسسات الدينية الرسمية أن يخففوا من حالات التكفير بالحدّ من أسبابه والاقتصاد في ضوابطه، ولا يخطر على بالهم أن يناقشوا المبدأ نفسه.
بقلم: د. محمد الحدّاد
هل يجوز في العصر الحديث أن ينتصب أشخاص أو هيئات أو مؤسسات مهمتها تكفير البشر؟ هذا سؤال لم يطرح عليهم ولم يطرحوه على أنفسهم. لكنّ اهتمام رجال الديانة التقليدية بقضية التكفير وانزعاجهم منها وحيرتهم أمامها أمر جدير بالانتباه والتحليل ولا يخلو من الدلالات المهمة. فمن الواضح أن هؤلاء فقدوا السيطرة على الخطاب الديني وعلى سوق الفتوى في عصر المعاملات الرقمية. ومن حقهم أن ينزعجوا لأنّ آخرين أصبحوا ينافسونهم في أدوارهم التاريخية ولأنّ نفوذهم الديني لم يعد ميدانا حصريا.
ولو سمح هؤلاء بفتح ندواتهم أمام مختصين في علم الاجتماع الديني لاستفادوا من التحاليل العميقة التي كان ماكس فيبر قد قدّمها حول هذه الظاهرة، أقصد ظاهرة انفجار المؤسسات الدينية التقليدية أمام تشابك وتعقّد العلاقات الاجتماعية في العالم المعاصر وانتشار ما أسماه فيبر “المشاريع الصغرى المنافسة في إدارة المقدّس”. وهذا الوضع الجديد غير المسبوق لا يمكن مواجهته بالأساليب القديمة مثل احتكار الفتاوى والبحث عن إجماع الشيوخ. ولا مناص من تأسيس جديد للقضية الدينية في مجتمعاتنا إذا أردنا أن نخرج من الحلقة المفرغة للتكفير والعنف وأن ننأى بأمن مجتمعاتنا ومصير أجيالها من أن تكون رهينة بأيدي العقائديين من مختلف الأصناف.
يعيش رجال الدين التقليديون حالة أسف وحيرة، إذ من الواضح أنّ المارد خرج من قمقمه والسحر قد انقلب على الساحر
يعيش رجال الدين التقليديون حالة أسف وحيرة، إذ من الواضح أنّ المارد خرج من قمقمه والسحر قد انقلب على الساحر. فلقد كان التكفير سلاحا يلوحون به محافظة على مكانتهم الاجتماعية، وكانوا في السابق مسيطرين على قواعد لعبة هم الذين ضبطوا قواعدها. ولهذا السبب كانوا مقتصدين في استعمال هذا السلاح مدركين أنّهم لو أفرطوا في استعماله لانفضّ الناس من حولهم، ولو طبقوا كلّ ضوابطهم في الكفر والإيمان لما بقي حولهم الكثير من الأتباع يؤدون لهم الزكاة والعشر ويستأمنوهم في أخصّ قضاياهم. فعلى سبيل المثال، ذكر الشيخ عبد القاهر البغدادي، أحد أكبر أعلام المذهب الأشعري، في كتابه المشهور “الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم” أنّ أهل السنة والجماعة “أجمعوا على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها، خلاف قول من زعم من الدهرية أن الأرض تهوى أبدا”. لكنّ أغلب المسلمين اليوم خرقوا هذا الإجماع وخرجوا عن عقيدة الفرقة الناجية بعد أن تأكد علميا أنّ الأرض ليست ساكنة بل تدور وأن زعم الدهرية هو الصحيح. وسكت رجال الديانة التقليدية عن هذه المعصية بل أصبحوا يتسابقون في تأكيد سبق أسلافهم بالقول بدوران الأرض قبل العلم الحديث.
لقد كان التكفير إلى عهد قريب يستعمل للترهيب لا للتنفيذ، وضحيته من الأفراد لا الجماعات وهم في الغالب بعض المثقفين العزّل الذين عبروا عن آراء قد تكون صوابا أو خطأ لكن رجال الديانة التقليدية عجزوا عن فهمها أو ردّها (أو الإثنين معا). وكما كفّر البغدادي قديما القائلين بدوران الأرض فقد كفّر بعض الفقهاء حديثا قاسم أمين عندما أصدر كتاب “تحرير المرأة” (1899) و”المرأة الجديدة” (1900) وطاهر الحدّاد عندما أصدر كتاب “إمرأتنا في الشريعة والمجتمع” (1930) والحبيب بورقيبة عندما أصدر المجلة القانونية للأحوال الشخصية بتونس (1956).
أما نهاية القرن فقد شهدت انعطافا خطيرا في تحوّل التكفير من إدانات قولية إلى أحكام تنفيذية
وليس موقف المحدثين في تكفير هؤلاء بأقلّ غرابة من موقف البغدادي، فالكلّ يريد للأرض أن تتوقف عن الدوران وللتاريخ أن لا يتقدّم وللمجتمع أن لا يتطوّر. وقد حكمت هيئة كبار العلماء بالجامع الأزهر بتاريخ 12-08-1925 بإخراج الشيخ علي عبد الرازق من زمرة العلماء بسبب تأليفه كتاب “الإسلام وأصول الحكم” (1925) وقضي هذا الحكم بسحب شهاداته الأزهرية ومنعه من الوظائف الدينية واعتبرت الهيئة أنه أساء إلى النبيّ عندما ذكر أن حروبه لم تكن دينية، ومما ورد في حيثيات الحكم: “الشيخ علي لا يمنع أن يصادم صريح آيات الكتاب العزيز فضلا عن صريح الأحاديث المعروفة ولا يمنع أن ينكر معلوما من الدين بالضرورة”، وعن هذه المآخذ ترتب حكم الأزهر عليه بالكفر.
وبعد ذلك نشر طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي” (1926) فتعرض بدوره للتكفير وسحب الكتاب من الأسواق ثم صدر في طبعة معدّلة بعنوان “في الأدب الجاهلي”. وتعرّض للتكفير محمد أحمد خلف الله عندما تقدّم بأطروحة موضوعها “الفن القصصي في القرآن” (1947) وتجاوز التكفير شخصه ليتهم به الشيخ أمين الخولي بسبب إشرافه على الأطروحة. وكفّر الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي لقوله
إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بدّ أن يستجيب القدر
وكفّر الشاعر جميل صدقي الزهاوي لقول:
لمّا جهلت من الطبيعة أمرها / وأقمت نفسك في مقام معلّل
أثبتّ ربّا تبتغي حلاّ به / للمشكلات فكان أكبر مشكل
مواضيع قد تهمك
وكلّ الذين ذكرناهم أصابتهم أنواع من الأذى، لكن لم يتعرض أحد منهم إلى القتل، بل لم يمنع تكفير طه حسين من توليه وزارة المعارف، ولا تكفير علي عبد الرازق من توليه وزارة الأوقاف، ولا تكفير خلف الله من أن يصبح كاتبا مشهورا، الخ. هذا ما كان عليه الحال في بداية القرن العشرين. أما نهاية القرن فقد شهدت انعطافا خطيرا في قضية التكفير. إذ تعاظم حضور الجماعات الدينية المتطرفة وحلّ نوع من توزيع المهام بينها وبين بعض المؤسسات الدينية الرسمية، هذه تفتي بالتكفير وتلك تقوم بمهمة تنفيذ توابعه. فكأنّ الأولى تمثل السلطة القضائية في مجتمع التكفير والثانية تمثل السلطة التنفيذية. أما السلطة التشريعية فيمثلها عشرات الفقهاء الأموات الذين يتواصل حضورهم ونفوذهم من خلال مؤلفاتهم المليئة بأحكام التكفير.
لقد تمثل الانعطاف في تحوّل التكفير من إدانات قولية إلى أحكام تنفيذية، فأصبحت له تبعات أكثر خطرا من تلك التي عرفت في بداية القرن. فهذا أستاذ جامعي يطلق من زوجته الأستاذة الجامعية بدون رغبة منه ولا منها ولكن بقرار من مؤسسة التكفير (نصر حامد أبو زيد). وهذا كاتب صاحب شهرة عالمية لم يشفع له تقدّمه في السنّ وحصوله على أكبر الجوائز الأدبية يتعرّض لمحاولة اغتيال غادرة (نجيب محفوظ).