لقد أصبحت الحركات المتطرفة الذراع العسكري لمؤسسات التكفير بل أصبحت تضغط على هذه المؤسسات وتضعها في الحرج لتستصدر منها الفتاوى ضد بعض أعدائها. وفي بعض الحالات، وهي الأسوأ والأخطر، نجحت هذه الجماعات في توجيه المؤسسة الدينية والسياسية معا لتحقيق أغراضها.

بقلم: د. محمد الحدّاد


وقد حصل ذلك مثلا في السودان سنة 1985 وكان الضحية الشيخ محمود محمد طه. كان الرئيس النميري قد قرّر الانتقال من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الغربي وفكّر في استمالة شعبه الثائر ضدّه بارتداء جبة الدين وأراد أن يعيد في القرن العشرين قصة والي الكوفة الذي تقرب لله يوم العيد بذبح الجعد بن درهم، فتقرب النميري إلى حسن الترابي وحركته “الإخوان المسلمين” وقدّم عربونا لصدق إسلامه تنفيذ حكم الردّة بحق شيخ تجاوز عمره 76 عاما بمقتضى فتوى تكفيرية صادرة ضده قبل 17 سنة.

لم ينتبه رجال الديانة التقليدية إلى خطورة الانتقال من التكفير مقولة ترهيبية إلى التكفير مقولة تنفيذية، بل لعلهم قد شعروا ببعض الرضا، ولم يدركوا أن الأمر سينقلب عليهم يوما ما. وجاء هذا اليوم سنة 1977 عندما اغتالت الجماعة المعروفة بـ”التكفير والهجرة” الشيخ محمد حسين الذهبي، وهو عالم أزهري مرموق كان مواليا للسلطة مثل أغلب رجال الديانة التقليدية. ولعلّ خطة تقاسم الأدوار التي ذكرنا جاءت نتيجة هذا الحادث وفي محاولة ضمنية لتفادي الاصطدام المباشر والعنيف بين “الإسلامين” التقليدي والحركي. فلقد اختلفا في مسألة تكفير الحكام الذين لا يطبقون الشرعية، لكنهم اتفقوا في مسألة تكفير المثقفين لأنه أكثر يسرا وسلامة.

لم ينتبه رجال الديانة التقليدية إلى خطورة الانتقال من التكفير مقولة ترهيبية إلى التكفير مقولة تنفيذية

يبدو أننا دخلنا مرحلة ثالثة منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وتحديدا بعد تفجيرات أيلول/ سبتمبر 2001، وهي مرحلة أصبحت المبادرة فيها بين أيدي ما يطلق عليه رجال الديانة التقليدية أنفسهم تسمية “الحركات التكفيرية”. هذه الحركات التي تمثل يمين اليمين الديني لم تعد تشعر بالحاجة إلى مراجعة رجال الديانة التقليدية بل تتجاوزهم وتتهمهم بالتهاون وقد تراهم بالعين التي رأت بها الشيخ الذهبي بسبب علاقاتهم بذوي السلطان وتفضيلهم المآدب في الفنادق على الجهاد في الخنادق.

وقد حاول رجال الديانة التقليدية أن يثنوا تلك الجماعات عن التعرض للبلدان الخليجية التي تتبرع لهم بالأموال، وحاولوا أن يثنوها عن التعرض لبريطانيا التي تؤوي إقاماتهم واجتماعاتهم وأرصدتهم، ولو استفتوا قبل تفجيرات 2001 لكانوا من المعارضين لها إدراكا منهم لما ستؤول إليه من عواقب سيئة على مصالحهم، لكنهم لم يفلحوا في شيء من ذلك. فالجماعات التكفيرية أصبح لها علماؤها ومفتوها واستقلت بقراراتها وهيئاتها التكفيرية.

هذا تطوّر مضرّ لا شكّ بمصالح رجال الديانة التقليدية لأنه يمثل منافسة قوية لأدوارهم وتعديا سافرا على مواقعهم الاجتماعية، وحالهم مثل حال التجار الرسميين عندما ينافسهم تجار السوق السوداء ويكلفونهم الخسائر، كل يريد أن يسيطر على موارد البضاعة ومصادرها والبضاعة هنا هي تكفير البشر. لكن إذا ما أغرقت السوق بفتاوى التكفير وانعدمت ضوابط العرض والطلب أدّى ذلك على إفلاس كبار التجار.

ولا ينفي قولنا هذا أنّ رجال الديانة التقليدية هم في الغالب أناس يميلون إلى المسالمة رغم خطاباتهم العنيفة لأن قرونا من ممارسة السلطة المعنوية علّمتهم أنّ ما لا يدرك كله لا يترك كله، لذلك قلنا إنّهم لا يميلون إلى الإكثار من التكفير الفعلي ولا يشعرون برغبة حقيقية في أن تتحوّل فتاواهم التكفيرية إلى أحكام تنفيذية. والمشكل اليوم أنّ المفتي الذي يتبرع بالفتوى لمجرد تبرئة الذمة لم يعد يتحكم في عواقب فتواه وقد يصبح مسؤولا عن عمليات عنف تضعه تحت طائلة المحاسبة. حقّا لقد أصبحت الفتوى مهنة خطيرة ومرهقة بعد أن كانت شغلا يسيرا يدرّ على صاحبه المكاسب الوفيرة.

إنّ التكفير في مجتمعاتنا مهنة من المهن مثل الزراعة والهندسة والطب، مع فارق أن حاجة المجتمعات متأكدة للمزارع والمهندس والطبيب لكنها لا تحتاج في الحقيقة إلى مئات الأشخاص من الذين احترفوا مهنة التكفير فلا يتقنون سواها. وليست القضية اليوم أن نقوم بتنظيم هذه المهنة الطفيلية ونراجع ضوابط التكفير نحو التخفيف منها، ولكن أن نتساءل عن شرعيتها وعن جواز التكفير أصلا.

التكفير في العصر الحديث هو جريمة، والجريمة تستوجب سنّ تشريعات لمعاقبتها

كلّ الأديان تقريبا قد تخلت عن التكفير: البوذية والهندوسية لم تعرفاه إلا في فترات وجيزة من تاريخيهما، اليهودية قرّرت منذ قرون ربط الانتماء إليها بالمولد لا بالعقيدة، البروتستانتية تخلت نهائيا عن التكفير منذ القرن الثامن عشر، الكاثوليكية هي أكثر الديانات الأخرى محافظة وما زالت تحتفظ بعقوبة الطرد من الكنيسة غير أنّ هذه العقوبة لم تعد لها اليوم عواقب على حياة الأشخاص وممتلكاتهم الشخصية وهي لا تشمل إلا رجال الدين الذين إذا أطردوا من الكنيسة عادوا مواطنين عاديّين في المجتمع. الإسلام يظلّ الدين الوحيد الذي يحتفظ بسيف التكفير مسلّطا على البشر ومتضمنا تبعات اجتماعية خطيرة هي القتل وتطليق الأزواج والحرمان من الميراث وغير ذلك. هذا هو لبّ القضيّة، فالاعتراض ليس على تصنيف الناس إلى كفّار ومؤمنين، مع أنّ هذا التصنيف غبيّ لا معنى له (كلّ مؤمن هو كافر من وجهة نظر إيمان آخر)، ولكنه اعتراض حول التبعات الجنائية للتكفير، باعتباره موقفا يترتب عليه القتل والاعتداء على الغير.

هل يمكن أن ترضى المجتمعات الحديثة بهذا الوضع؟ كلّ الشرائع والقوانين تعتبر إجراما ما تترتب عليه الجريمة، والتكفير هو من هذا الباب، يستوي أن تكون ضوابطه مشدّدة أو مخفّفة. والتكفير لا علاقة له بالخيانة العظمى التي تعتبرها بعض التشريعات الحديثة جريمة تستوجب الإعدام، فلا علاقة مثلا بين الإيمان بالملائكة والشياطين والوفاء للوطن أو الخيانة له. والتكفير ليس ضروريا للمحافظة على الهويّة، فبئس الهوية هذه إذا كانت قائمة على مثل هذه المعتقدات ومتسلطة على الناس بالعنف والترهيب. التكفير في العصر الحديث هو جريمة، والجريمة تستوجب سنّ تشريعات لمعاقبتها. هذا هو المطلوب اليوم في كل المجتمعات العربية والإسلامية، ينبغي أن يصبح تعاطي التكفير ممنوعا بقوّة القانون الذي تتمثل وظيفته الأولى في حماية الأفراد في أرواحهم وممتلكاتهم. والمخالف ينبغي أن يعامل معاملة القتلة والإرهابيين.

والمجتمعات الحديثة هي مجتمعات تفكير لا مجتمعات تكفير، لكل شخص الحريّة في التفكير والتعبير ما لم يعتد على حقوق الآخرين. يمكن أن توجد حساسيات مختلفة يمينية ويسارية، دينية وعلمانية، تراثية وحداثية، كلها تقدّم المقترحات والمشاريع الفكرية ولا يفرضها أحد على أحد ولا يختار بينها المرء وسيف التكفير مسلّط عليه وعقدة الذنب تشلّ مواهبه الطبيعية. إذا زرت أي مكتبة في الغرب رأيت كتب سارتر الوجودي الملحد وريمون آرون اليميني وبول كلوديل الشاعر المؤمن مصنفة حسب الاختصاص وليس حسب الإيمان ومعروضة على اختيار القارئ دون حواجز، لماذا لا تتوفّر للمسلم نفس الحرية في التفكير والاطلاع ولماذا يعامل معاملة القاصر فيفرض عليه الفقهاء ما هو كفر وإيمان وحلال وحرام. ليس للقانون أن يلزم أحدا بالكفر ولا بالإيمان وعليه أن يحميهم جميعا من الاعتداء على الأرواح والأجساد والممتلكات. وما كان سببا للجريمة ينبغي أن يعدّ جريمة ولقد حان الوقت لنبدأ في التحوّل من مجتمعات تكفير إلى مجتمعات تفكير. والمساهمة التي يمكن لرجال الديانة التقليدية تقديمها للمساعدة في تحقيق هذا الهدف هي إصدار فتوى تمنع بالإجماع فتاوى التكفير مهما كان الدافع إليها.

محمود محمد طه: تم اعدامه بعد تكفيره

تبعات التكفير: المشيعون في جنازة المفكر والكاتب فرج فودة اغتيل جراء التحريض الديني