شهدت السنوات الماضية في مختلف البلدان العربية حملة اغتيالات استهدفت المثقفين وقادة الرأي العام بشكل خاص. ولكنها استهدفت أيضا القادة العسكريين والمدنيين وأحيانا بشكل طائفي محض كما حصل في سوريا ابان الثمانينات من القرن الماضي على يد “الطليعة المقاتلة لجماعة الاخوان المسلمين”. فقد كانت تنشر بيانات صاخبة استفزازية من النوع التالي: “قتلنا بالأمس فلانا الفلاني لأنه علوي كافر”.

بقلم: هاشم صالح


هكذا بالحرف. لم يقولوا بأنهم قتلوه لأنه مع النظام أو ضد النظام وانما فقط لمجرد كونه علويا. بمعنى آخر فانهم يحاسبونه على شيء لا حيلة له به: مكان ولادته. لم يتح له الحظ أن يولد في المنطقة الصح وانما في المنطقة الخطأ. هذا هو منطق الأصوليين في كل زمان ومكان. وكانوا يفتخرون بذلك ويتبجحون على رؤوس الأشهاد دون أن يعترض عليهم أحد ربما ما عدا الدكتور جمال الآتاسي وبعض المثقفين المتنورين الآخرين. وقد كان نصيب المثقفين والصحفيين كبيرا من هذه الاغتيالات: من الجزائر، الى سوريا، الى مصر، الى لبنان، الى العراق، والخليج العربي، الخ..

وذلك لأن الأصوليين يعرفون أهمية المثقفين في صنع الرأي العام ونشر الأفكار الجديدة التي تمغصهم مغصا. ولهذا السبب فانهم يركزون عليهم بغية استئصالهم أو استئصال تأثيرهم الفكري على العقول[1]. لا أحد يعرف كم هو عدد الكتاب والصحفيين الذين سقطوا في الجزائر ابان العشرية السوداء تحت رصاص الجهاديين الدمويين. ولا أحد يعرف العدد الكبير الذي سقط في سوريا أو العراق أو مصر أو السودان أو المشرق أو المغرب الخ.. لا أستطيع أن أتحدث عن جميع الذين سقطوا تحت وابل رصاص الاخوان المسلمين في سوريا مثلا. كنت أتمنى لو أستطيع التحدث عن حالة الدكتور محمد الفاضل رئيس جامعة دمشق. ولكن القصة معروفة ومشهورة فليعد اليها من يشاء على صفحات الكتب أو صفحات الأنترنيت. فقط أريد القول بأن حالته تختلف عن حالة اغتيال فرج فودة أو سواه من المثقفين والصحفيين المصريين والجزائريين.

الاغتيال الديني أخطر من الاغتيال السياسي لأنه يتم باسم المقدس الأعظم: أي الله ذاته

فالدكتور الفاضل اغتيل على أساس طائفي محض وليس فقط لأنه ذو فكر تنويري كما حصل لفرج فودة. لقد اغتيل لأنه علوي ابان الحملة الشرسة التي شنتها “الطليعة المقاتلة” على جميع الكوادر العلوية من مدنيين وعسكريين حيث أطاحوا بالعشرات أو بالمئات في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. لم يهاجموا الكوادر السنية الرفيعة على الرغم من أنها موجودة بكثرة في بنية النظام أيضا. لماذا؟ لكي يدقوا اسفينا عميقا في صميم الوحدة الوطنية للشعب السوري. وقد نجحوا في ذلك الى حد كبير للأسف الشديد. هم السبب الأساسي الذي أدى الى تدمير سوريا. اللاهوت الطائفي الأسود الذي يتبناه الاخوان المسلمون هو المسؤول الأول عن الكارثة السورية. هذا لا ينفي بالطبع مسؤولية الاستبداد وأجهزة المخابرات وخنق الحريات.

أما فرج فودة والطاهر جعوط وغيرهما من المثقفين المصريين والجزائريين فلم يتم اغتيالهم على أساس طائفي. وذلك لأنهم مسلمون سنة ينتمون الى الأغلبية ولا خوف عليهم من هذه الناحية ولا هم يحزنون. ولكنهم اغتيلوا على أساس أفكارهم وقناعاتهم الحداثية التنويرية المضادة لعقيدة الاخوان المسلمين الطائفية والظلامية. وهذا شرف لهم. وهم قدوة لنا ومثالٌ يحتذى.

وقل الأمر ذاته عن نجيب محفوظ أكبر كاتب عربي في هذا العصر. فقد حاولوا اغتياله على أساس فكري لا طائفي لأنه ليس أقلويا ولا يعاني من مشكلة أقلية من حيث الولادة. لقد حاسبوه على رواية “أولاد حارتنا”، احدى راوائع أدبنا وفكرنا الحديث. فقد اعتبروها تمثل الحادا وكفرا. لقد كفروه وطعنوه بالسكين في رقبته بعد أن قارب التسعين! وكان ذلك بعد نيله لجائزة نوبل لا قبلها: أي بعد أن رفع راية المصريين والعرب عالياً بين الأمم. وبالتالي فينبغي التفريق بين الاغتيالات الطائفية المحضة التي قد تصيب مثقفي الطوائف الشيعية عموما وكذلك المثقفين المسيحيين من أمثال الكاتب الأردني المحترم والمغدور ناهض حتر الذي سنكرس له فصلا كاملا لاحقا. هاتان حالتان مختلفتان تماما. اغتيال مثقفي الأقليات غير اغتيال مثقفي الأكثريات. ولكن هناك صفة مشتركة تجمع بين هؤلاء المثقفين المستهدفين بعملية التصفية الجسدية سواء أكانوا ينتمون الى الأكثرية أم الى الأقليات: وهي أنهم يحملون أفكارا تنويرية تقدمية مضادة لأفكار الاخوان المسلمين ومن لف لفهم.

لماذا أقول بأن الفتوى اللاهوتية أخطر من الرصاصة؟ لماذا أقول بأن الاغتيال الديني أو اللاهوتي الكهنوتي هو أخطر أنواع الاغتيالات؟ لماذا أقول بأن اصلاح اللاهوت الاسلامي بشكل جذري راديكالي هو الشرط الأساسي لتجاوز المرحلة الظلامية الحالية؟

كجواب على هذه التساؤلات سوف أقول ما يلي: الاغتيال الديني أخطر من الاغتيال السياسي لأنه يتم باسم المقدس الأعظم: أي الله ذاته. وبالتالي فيقتلونك مرتين لا مرة واحدة. انه اغتيال معنوي وجسدي في آن معا. هذا في حين أن الاغتيال السياسي هو اغتيال جسدي فقط ولا قدسية له. الاغتيال الديني يمحقك محقا ويصيبك باللعنة الأبدية في نظر الجماهير المؤمنة أو المتدينة. انها تعتبر  اغتيالك شيئا طبيعيا تماما.

المسألة لاهوتية قبل كل شيء. واذا لم يظهر لاهوت جديد فان المشكلة لن تحل حتى ولو بعد مليون سنة!

لماذا؟ لأن الشيخ الفلاني أطلق فتوى تقول بأنك كافر عدو الله. ولهذا السبب يصبح اغتيالك واجبا شرعيا. بل ويتقربون الى الله تعالى بذبحك. هناك ثواب الهي أو أخروي يناله الشخص الذي ينفذ عملية الاغتيال. انه يدخل الجنة مباشرة. هذا في حين أن الاغتيال السياسي يظل دنويا ماديا لا قداسة له ولا احترام. للمزيد من الشرح وايضاح الفكرة سوف أقول ما يلي: للاغتيال اللاهوتي الديني قواعد وأصول وليس عشوائيا على عكس ما نظن. بمعنى أن هذا المتعصب الراكب على دراجة نارية والمكلف باطلاق الرصاص على مثقف ما من الخلف أو من الأمام لا يفعل ذلك من تلقاء نفسه. وانما ينتظر حتى يصدر شيخه الادانة اللاهوتية التي تكفر هذا المثقف لكي يصبح مقتنعا بالعملية كل الاقتناع. وعندئذ يذهب لاغتياله وهو مطمئن مرتاح الضمير. وذلك لأنه ليس من السهل أن تقتل شخصا لا تعرفه وليس بينك وبينه أي عداوة شخصية وحتما لم تقرأ له حرفا واحدا كما صرح قاتل فرج فودة أو قاتل نجيب محفوظ.

وبالتالي فالفتوى الدينية أو اللاهوتية هي التي تعطيه قوة معنوية هائلة وهي التي تضغط على الزناد اذا جاز التعبير وتردي الضحية قتيلا. لولاها لما تجرأ هذا الأصولي المشحون شحنا بالتعصب الديني على اطلاق الرصاص. لولاها لكان ضميره قد عذبه عذابا شديدا بل ولربما كان قد جن. ولكن الآية القرآنية المنتزعة من سياقها تحميه وتطمئنه: “فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت اذ رميت ولكن الله رمى[2]” (الأنفال،17).

ولا ننسى بالطبع فتاوى ابن تيمية وبقية قادة الأصوليين السابقين واللاحقين على مدار التاريخ. جيش عرمرم! فكلامهم يحظى أيضا بالقداسة اللاهوتية مثل القرآن. ومعلوم أن ابن تيمية هو المرجعية العليا لكل الحركات الأصولية المعاصرة. هذا ما نفهمه بكل وضوح من خلال تصريحات قتلة فرج فودة ونجيب محفوظ وآخرين عديدين. ينبغي العلم بأن رجال الدين والناس عموما يعتقدون بأن التراث المنقول الهي بالكامل من أوله الى آخره. حتى أصغر شيخ عندما يتكلم تشعر العامة وكأنه ينطق بكلام الهي أو يمثل القداسة الالهية على الأرض.. وعندما تقول لهم: ولكن تُقتل باسم هذه الفتاوى السوداء آلاف الأبرياء وتُفجر الأسواق والساحات المغتصة بالناس وتُزهق أرواح البشر المارين بالصدفة في شوارع لندن أو باريس ونيس الخ فانهم يجيبونك قائلين: هؤلاء يستحقون القتل شرعا لأنهم زنادقة أو كفار. فهل أنت ضد تطبيق شرع الله؟ وبالتالي فالمسألة لاهوتية قبل كل شيء. واذا لم يظهر لاهوت جديد في الاسلام يحل محل اللاهوت الظلامي التكفيري القديم فان المشكلة لن تحل حتى ولو بعد مليون سنة!

سوف أتحدث في المقالة القادمة عن الصراع الجاري حاليا في العالم العربي بين نوعين من المثقفين: المثقف الأصولي/ والمثقف التنويري. وهو صراع حاد جدا ومرير. انه صراع على المشروعية الفكرية العليا في العالم الاسلامي كله وليس فقط في العالم العربي. هناك تساؤلات من نوع: ما هو الفكر الحلال/ وما هو الفكر الحرام؟ هل ينبغي تحديث الاسلام أم أسلمة الحداثة؟ متى سيتخلى المسلمون عن الفتاوى التكفيرية القاتلة؟ وهل يستطيعون؟ وكيف؟ غني عن القول أن من يربح هذا الصراع الهائل سوف يربح المستقبل العربي ذاته والأجيال القادمة كلها.


[1] في الماضي البعيد تم اغتيال مثقفين كبار بتهمة الزندقة والكفر. نذكر من بينهم ابن المقفع(720-756) الذي قتل بطريقة وحشية مرعبة لا يكاد يتصورها العقل. وهكذا كان مصير الشاعر بشار ابن برد(715-786) والمتصوف الكبير الحلاج(858-922) والعظيم الآخر السهروردي(1155-1191) وعشرات غيرهم..

[2] بمعنى آخر فان الذي قتل فرج فودة هو الله شخصيا وليس ذلك الشخص الذي أطلق الرصاص عليه من الخلف والمدعو باسم: عبد الشافي رمضان.

على هذا المستوى ينبغي أن نموضع الأمور لكي نفهم مدى عمق الاغتيال اللاهوتي وخطورته. انه أخطر بكثير من مجرد الاغتيال السياسي الذي لا مشروعية الهية له وانما له فقط مشروعية أيديولوجية سياسية أو دنيوية أرضية. وشتان ما بينهما.

الصورة الرئيسية: جنازة فرج فودة

فرج فودة : اغتيل على أساس أفكاره وقناعاته الحداثية التنويرية
نجيب محفوظ : حاسبوه على رواية “أولاد حارتنا”، التي اعتبروها تمثل الحادا وكفرا

أبو العلاء عبد ربه – أحد قتلة فرج فودة: فعل ما فعله ليكون “أقرب إلى الله. آمل أن يتم تقييم ما فعلته على أنه من حسناتي يوم القيامة”