من بين الادعاءات التي روّجت لها فصائل الإسلام السياسي كافة، وعلى رأسها حزب التحرير، أنّ المسلمين تخلفوا عن ركب الحضارة بعد تخليهم عن نظام الخلافة واستيرادهم لنظم غربية تندرج ضمن ما يسمونه بـ”الطاغوت”، وهو المصطلح الذي يشمل في اعتقادهم إلى كل أنظمة العالم اليوم، من الجمهورية الفرنسية إلى المملكة العربية السعودية، مع استثناءات قليلة العدد، قصيرة الأمد، وغير واضحة السند!

بقلم: سعيد ناشيد


بالموازاة، حاول الإسلام السياسي ترسيخ رؤيا خلاصية تتألف من مشهدين خارقين:

مشهد الخليفة الأسطوري الذي يخرج فجأة من مكان ما من داخل البلاط لكي يُصلح أحوال الرعية وينصف المظلومين، ولا يهدأ له بال إلا بعد أن يتأكد من عدم وجود أي مسلم جائع في البلاد. وهو المشهد الذي يقابله مشهد احتياطي من نوع آخر، يتعلق بجيش من المجاهدين يخرج فجأة من مشارق الأرض أو مغاربها، زاحفا كالقضاء للقضاء على كل أشكال الطاغوت، وإعادة العزة للإسلام والمسلمين !

الملاحظ أن تلك اليوتوبيا التي حاولت ملء الفراغ الناجم عن انهيار اليوتوبيات اليسارية في أواخر القرن الماضي، تستند إلى ثلاث مغالطات منطقية: أولا، تخلف المسلمون لأنهم تركوا الخلافة؛ ثانيا، الخلافة هي دولة الإسلام بالتمام؛ ثالثا الإسلام هو الأقدر على بناء السلام الأهلي والتضامن الاجتماعي بين المسلمين. سنحاول أن ندحض كل مغالطة على حدة:

المغالطة الأولى، تخلف المسلمون لأنّهم تركوا الخلافة.

في خضم التعتيم الذي رسخته بعض المقررات الدراسية، والمسلسلات التلفزية، والبرامج الإعلامية، يظهر الأمر كما لو أنه كذلك. حيث كان المسلمون أشداء عندما عاشوا تحت لواء الخلافة، فامتدّ حكمهم من جنوب شرق آسيا إلى المغرب الأقصى، وكان يكفي أن تصرخ امرأة على التخوم، وامعتصماه، حتى تصهل خيول الفتح! لكن بعد أن قرّر مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة أصبح حال الشعوب المسلمة من سيئ إلى أسوأ، فمن نكبة 1948، ثم هزيمة 1967، إلى احتلال ودمار العراق في 2003، ثم وصولا إلى فتن اليوم، حيث أصبحت معظم المجتمعات المسلمة لا تصدر للعالم سوى المهاجرين واللاجئين.

ظاهريا تبدو المعادلة كما لو أنها صحيحة، فبعد أن فرط المسلمون في لواء الخلافة، أصابهم الضعف والوهن، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وفق حديث استعمله الإسلام السياسي في سنوات الدعاية. لكن، يكفي أن نقلص قليلا من الحماسة حتى نكتشف بأنّ المعادلة خاطئة بنحو واضح:

أولا، منذ انهيار الخلافة وإلى غاية اليوم، لم تكن تركيا دولة واهنة وضعيفة، بل استطاعت عقب إلغاء الخلافة، وخلال ظرف وجيز، أن تنتقل إلى دولة صناعية حديثة. والمؤكد أيضا أنّ سياسة “صفر عدو” التي استثمرتها حكومة “حزب العدالة والتنمية” في بداية عهدها، كانت ثمرة العلمانية التركية نفسها والتي طوت صفحة “الفتوحات العثمانية”، ومنعت الجيش من التورط في أي حرب إقليمية جديدة. لذلك ليس مستغربا أن يعود الجيش التركي اليوم إلى ممارسة بعض الغزوات العسكرية بالموازاة مع تدهور جودة العلمانية.

ليس مستغربا أن يعود الجيش التركي إلى ممارسة بعض الغزوات  بالموازاة مع تدهور جودة العلمانية

ثانيا، إندونيسيا التي تُعتبر أكبر بلد ذي غالبية مسلمة، لم تعد اليوم بلدا ضعيفا وواهنا كما كانت في العصر الوسيط. بل إلى حدود مئتي عام مضت، كانت إندونيسيا عبارة عن أرخبيل من الشعوب والقبائل البدائية والبدوية. وبفضل القيم الوطنية والعلمانية ومبادئ الدستور الحديثة التي تم إرساؤها في عهد الرئيس المؤسس أحمد سوكارنو، نجحت إندونيسيا في بناء دولة صناعية حديثة، مع الحفاظ على التنوع الديني والثقافي واللغوي الذي تتمتع به. جكارطا التي كانت في عصور الخلافة مجرد أكواخ صارت تضم اليوم أكثر من سبعين ناطحة سحاب بمهابط للطائرات. هكذا فإن مصطلح “العصر الذهبي” للإسلام لا يعني الشيء الكثير بالنسبة إلى أكبر بلد ذي غالبية مسلمة، أندونيسيا.

ثالثا، لقد بدأ دخول العالم الإسلامي إلى عصور الانحطاط قبل قرون طويلة عن قيام كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة. بل كانت فترة الخلافة العثمانية نفسها بالنسبة إلى العالم الإسلامي تمثل جزء من عصر الانحطاط، حيث لم ينتج العالم الإسلامي في تلك الفترة أي فكرة جديدة في مجالات العلوم والفنون والمعرفة. لذلك طبيعي أن تشتد مقاومة الشعوب العربية والكوردية والأمازيغية وغيرها للاحتلال العثماني مع ارتفاع حدة الشعور بحجم التخلف الحضاري أمام الغرب الصناعي.

رابعا، لقد نجحت إسبانيا في استعادة منطقة الأندلس، وكانت الخلافة الإسلامية حينها لا تزال قائمة راسخة. لكن عندما سقطت الخلافة في المشرق كانت الأندلس الإسبانية تتفوق حضاريا على كل مناطق العالم الإسلامي. حسنا، علينا أن ننتبه إلى أنّ التلاعب بالوعي عادة ما يبدأ من التلاعب بالترتيب الكرونولوجي للأحداث، لا سيما حين يمرّ عليها زمن طويل. وهذا نوع آخر من المغالطات، يحتاج إلى مقام آخر.

2) المغالطة الثانية، التخلي عن الخلافة يعني التخلي عن حكم من أحكام الإسلام.

من البداهات المنسية للإسلام السني أنّ الخلافة لم ترد بالنص ولا بالوصية، لكنها اجتهاد بشري قام به صحابة النبي عقب وفاته. كما أنّ المصطلح نفسه قد تم التوافق عليه في سياق اجتهاد تاريخي طويل الأمد، إذ سمي أبو بكر “خليفة رسول الله”، ولما مات، قيل، لا يمكننا أن نقول “خليفة خليفة رسول الله”، فأطلقوا على عمر بن الخطاب لقب أمير المؤمنين. وهو اللقب الذي استمر إلى غاية فترة ولاية علي بن أبي طالب. ثم عاد مصطلح الخليفة مع معاوية لكي يعني بادئ الأمر “خليفة المسلمين”، ثم لكي يعني في الأخير “خليفة الله”. وهي الدلالة التي استمرت إلى غاية آخر خلفاء بني عثمان في القرن العشرين.

3) المغالطة الثالثة: الإسلام هو الأقدر على أن يجعل المسلمين على قلب رجل واحد كالبنيان المرصوص. كما أنّ الأحزاب الدينية كسائر الأحزاب يحقّ لها أن تقدم نفسها بمرجعية إسلامية مثلما تقدم باقي الأحزاب نفسها بمرجعيات أخرى (قومية، ماركسية، ليبرالية، إلخ).

إنّ الذي يتعارض مع الحداثة ليس الإسلام، من حيث هو عقيدة، بل الشريعة

يتعلق الأمر هنا بمغالطة أساسية تقوم بدورها على مغالطات فرعية:

-منذ وفاة الرسول، لا توجد أي حقبة من حقب تاريخ الإسلام يشهد لها الجميع بأن المسلمين كافة قد اجتمعوا على كلمة واحدة، بل لعل تاريخ الحضارة الإسلامية كسائر التواريخ القديمة، مليء بالفتن والحروب الأهلية، والتي تبدو بالفعل “كقطع الليل المظلم” وفق توصيف المتن الحديثي نفسه.

-إذا كان الخطاب القرآني حمال أوجه كما ورد في الحديث النبوي، ويضرب بعضه بعضا كما جاء في كلام لعلي بن أبي طالب، فهو لا يحمي الحقل السياسي من تضارب التأويلات، والذي قد يفضي إلى تضارب بالراجمات والقاذفات.

-إنّ الذي يتعارض مع الحداثة ليس الإسلام، ليس الإسلام من حيث هو عقيدة، بل الشريعة. علما بأن الشريعة ليست كلام الله، ولا كلام الرسول، بل كلام الفقهاء تحديدا. الشريعة ثمرة اجتهاد الفقهاء على مدى عشرات السنين، حين استعملوا جهازا مفاهيميا يعكس عصر التوسعات الإمبراطورية، واستغلوا النص القرآني والحديثي وحتى الصحابي والتابعي، واعتمدوا على آلية القياس لكي يجعلوا النص يقول “ما لم يقله”. وإن كانت فصائل الإسلام السياسي كلها تركز في برامجها ومطالبها وشعاراتها على الشريعة التي هي اجتهاد الفقهاء بدل العقيدة التي هي جوهر الإسلام، فلأن الشريعة توفر لها وسائل التحكم في النفوس، والصراع على السلطة.

يبقى السؤال، ما الذي يريد أنصار عودة الخلافة عودته، حين ينادون بعودة الخلافة؟

يمكننا أن نحسن الظن، وأن نفترض بأنهم يريدون عودة تجربة عمَر بن الخطاب بالتمام لكن دون أن يُقتل في المسجد، وعودة تجربة عثمان بن عفان لكن دون أن يُقتل في الفتنة، وعودة تجربة علي بن أبي طالب لكن دون أن يُطعن بالسيف، إلخ. يريدون عودة الخلافة التي كانت مع الأمويين، ومع العباسيين، ومع العثمانيين، لكن بعد حذف كل مشاهد الاغتيالات التي كانت تحدث بين سكان البلاط، ومشاهد الفتن التي كانت تحدث بين الطوائف والقبائل والعشائر ومختلف الجماعات في حروب الشوارع !

ماذا يريدون؟

يريدون عودة الخلافة بعد حذف كل المشاهد التي لا تليق بالمشاهدين !

وهذا كل ما في الأمر.

مصطفى كمال أتاتورك: بدأ دخول العالم الإسلامي إلى عصور الانحطاط قبل قرون طويلة عن قيامه بإلغاء الخلافة

جكارطا: كانت في عصور الخلافة مجرد أكواخ وصارت تضم اليوم أكثر من سبعين ناطحة سحاب