”ولئن ساغت العلمانية في بلاد أوروبا لأن النصرانية مُحرَّفة، ولأنَّ رجال الدين سيطروا على عقول الناس وقلوبهم, وحاربوا العلم والعلماء حرباً لا هوادة فيها؛ ولأن النصرانية لا تتضمن نظاماً متكاملاً عن الحياة؛ فإنها لا تسوغ في مجتمعات المسلمين بحال؛ لأن الإسلام دين شامل متكامل يستغرق قضايا الدنيا والآخرة، ويلبي مطالب الروح والجسد، ونصوصه الكلية تندرج تحتها من أحكام الجزئيات ما لا يتناهى“

بقلم: بابكر فيصل بابكر


الحديث أعلاه هو جزء يسير من إجابة مطولة لرجل الدين السلفي, عبد الحي يوسف, عن السؤالين التاليين اللذين سألهما أحد أصدقاء موقع “المشكاة” الإلكتروني : ماهو حكم الديموقراطية والعمل بها في الإسلام ؟ ما هو حكم العلمانية في الإسلام ؟

من المعلوم أن جميع تيارات الإسلام السياسي تبني دعوتها إلى ضرورة تطبيق الشريعة وأسلمة الدولة وعودة الخلافة على إدعاء يقول أن الإسلام دين شامل لكل نواحي الحياة وبالتالي فإنه من المستحيل فصله عن الدولة مثلما حدث في الديانة المسيحية التي يقولون أنها تختلف إختلافاً جذريا عن الإسلام.

الدين لدى تيارات الإسلام السياسي ودعاة تطبيق الشريعة – بحسب صلاح سالم – يكون شاملا فقط عندما يتحدث في كل شيء ولا يسكت عن أي شيء, وعندما يطرح كل الأسئلة ويقدم جميع الإجابات, أو كما قال عبد الحي يوسف في إجابته أعلاه عندما “يستغرق قضايا الدنيا والآخرة”.

وعلى العكس التام مما يدعيه هؤلاء فإن شمولية الدين وإستمرار فاعليته تكمن في عموميته و تساميه عن الوقائع المتجددة وعدم تدخله في تفاصيل الحياة المتغيرة, فهو يطرح الإجابات على الأسئلة الوجودية الأساسية حول الحياة والموت, خلق الكون ومسيره ومآله الأخير, مصير الإنسان والقيم التي يجب أن تحكم حياته.

إن إكتفاء الدين بطرح المباديء والتصورات والقيم الكبرى وإمتناعه عن الإستغراق في الشؤون التفصيلية  المرتبطة بكيفية إنزالها على واقع الناس في الحياة هو الذي يؤكد على شموليته, وهذا هو الأمر الذي يثبته النص الديني (القرآن) و التجربة التاريخية الإسلامية.

يؤكد القرآن على قيم عامة أساسية مثل الحرية والعدل والشورى, ولكنه يصمت عن كيفية تطبيقها

في مسألة السياسة و الحكم, يؤكد القرآن على قيم عامة أساسية مثل الحرية والعدل والشورى, ولكنه يصمت عن كيفية تطبيقها في الواقع الحياتي المتغير, ولا يضع تفصيلات محددة يجب إتباعها في جميع الأحوال والأوقات, وكذلك فعل الرسول الكريم في واقع الممارسة التاريخية, فهو لم يترك لأصحابه دليلا تفصيليا لكيفية تسيير شؤون المسلمين بعد رحيله, وكذلك إمتنع عن إختيار من يخلفه في إدارة أمرهم.

قد جاء إختيار أبوبكر الصديق في السقيفة بإسلوب غلب عليه النزاع بين المهاجرين والأنصار من جهة وبين آل بيت الرسول وبعض كبار الصحابة من جهة أخرى. فالأنصار الذين يئسوا من تولية سعد بن عبادة بعد أن رأوا تشبث عمر وأبي بكر قالوا ” منا أمير ومنكم أمير” ليجيبهم الصديق ” منا الأمراء ومنكم الوزراء”.

وعند وفاته, لم يترك أبوبكر الصديق شأن تولية من يخلفه إلى عامة المسلمين أو حتى أهل الحل والعقد, بل أوصى لعمر بن الخطاب بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبيل وفاته دون أن يعلموا ما بداخله.

وعندما دنا عمر من ملاقاة ربه لم يتبع أسلوب السقيفة أو أسلوب الصديِّق في الإختيار, بل قصر الإختيار على ستة أسماء ( على وعثمان وطلحة والزبير وإبن عوف وسعد ), يختارون من بينهم من سيتولى الأمر.

أما على بن أبي طالب فقد تمت توليته تحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح بموافقة بعض الأمصار ورفض البعض الآخر, عقب فتنة إغتيال ذو النورين. وبعد إغتيال علي إنفرد معاوية بن أبي سفيان بحكم المسلمين, ومع توليه تحول الحكم إلى مُلك عضوض وإختفت حتى اليوم كل أساليب الأختيار عدا أسلوبي الغلبة والوراثة.

وإذا كان القرآن والرسول قد أحجما عن وضع أسلوب مُفصَّل أو وسيلة معينة لإختيار الحاكم, فإنهما كذلك لم يضعا نظاما معينا للحكم يُحِّدد سلطات ذلك الحاكم وصلاحياته, وآلية إتخاذ القرار في الدولة, والفترة الزمنية التي يبقى فيها الحاكم على سُدَّة الحكم, وغير ذلك من الأمور التفصيلية التي يجب توافرها في أنظمة الحكم.

يقول قاسم أمين في إطار حديثه عن الخلافة الإسلامية :

”أما من جهة النظامات السياسية فإننا مهما دققنا البحث في التاريخ الإسلامي لا نجد عند أهل تلك العصور ما يستحق أن يُسمى نظاما, فإن شكل حكومتهم كان عبارة عن خليفة أو سلطان غير مُقيد, يحكم موظفين غير مُقيدين … ربما يُقال إن هذا الخليفة أو السلطان يُولى بعد أن يُبايعه أفراد الأمة, وأن هذا يدل على أن سلطته مستمدة من الشعب صاحب الأمر. ونحن لا ننكر هذا, ولكن هذه السلطة التي لا يتمتع بها الشعب إلا بضع دقائق هى سلطة لقيطة, أما في الحقيقة فإن السلطان هو وحده صاحب الأمر“.

إنها ”شمولية وجودية“ وليست ”شمولية سياسية“

إن عدم وجود نظرية سياسية في الإسلام يؤكد ما ذهبنا إليه من أن شمولية الدين تعني إكتفائه بوضع القيم والمباديء العامة التي يجب أن تلتزم بها السلطة السياسية في المجتمع دون الخوض في تفاصيل الأشكال والآليات التي تتخذها السلطة في إنزال تلك المباديء إلى الواقع التطبيقي. إنها “شمولية وجودية” وليست “شمولية سياسية” بحسب تعبير صلاح سالم.

ولعل من أبلغ العبارات الدالة على شمولية الإسلام الوجودية وليست السياسية هى تلك المنسوبة للفقيه إبن القيم :

”أينما يكون العدل فثم شرع الله“.

هذه المقولة الدالة تبين أن أحد المقاصد الكلية للدين هو تحقيق العدل وبالتالي فإنه ليس مهما نوع النظام السياسي (الوسيلة) الذي يتم عن طريقه الوصول لتلك الغاية, بل أن تنزيلها إلى أرض الواقع والممارسة وحده كفيل بإعطائها الصفة الإسلامية. 

يظن دعاة أسلمة الدولة خطأ أن غياب القيم الوجودية الكبرى من شاكلة الشورى والعدل والحرية عن العالم الإسلامي إنما يرجع لغياب الدولة الإسلامية (الخلافة), وأن عودة الأخيرة سيضمن إنزال تلك القيم على أرض الواقع, ويفوت عليهم أن تلك القيم لم تسد طوال تاريخ الخلافة إلا في فترات إستثنائية قصيرة جدا, وأن غيابها لم يك بسبب زوال الخلافة بل كان بسبب الإستبداد الذي كان سمة تلك الفترة من تاريخ البشرية جمعاء.

وبالتالي فإن أي محاولة لأسلمة الدولة أو إستعادة الخلافة لن تجدى في بسط القيم الكبرى التي ينادي بها الإسلام طالما أن توجهات تلك الدولة ظلت قائمة على أسس الإستبداد الذي كان سائدا قبل ظهور الدولة الحديثة, وطالما أنها ترفض نظام الحكم الديموقراطي الذي لا تكتمل أركانه إلا بالعلمانية السياسية.

عبد الحي يوسف: “نصوصه الكلية تندرج تحتها من أحكام الجزئيات ما لا يتناهى”
قاسم أمين: “لا نجد عند أهل تلك العصور ما يستحق أن يُسمى نظاما”