الحساسية العربية إزاء تمركز الفكر الغربي حول ”تاريخ الغرب‟ أدى إلى فهم ”المركزية الغربية‟ بشكل شعبوي فتحول الفكر إلى ردة فعل عاطفية وارتكاسة نحو الهوية الدينية واللغوية . مثل هذا الفكر نجده في كتابات طه عبد الرحمن وأبو يعرب المرزوقي, وغيرهم, والتي تعتبر بمثابة ”فلسفة معاصرة للسلفيين‟. هؤلاء وغيرهم يريدون إقناع العالم أننا نحن العرب والمسلمين ”شيء آخر‟ ونوع بشري مغاير, مختلفون بحيث لا تسري علينا مقولات الفهم الإنساني كما حددها كانط أو هوسرل.

بقلم: رياض حمَّادي


وبهذا الفهم فهم لا يكتفون بترسيخ ’الكليشيهات‛ الاستشراقية العنصرية, بل أنهم يجلبون حولهم الكثير من المتعاطفين من الشباب الذي فشل في المصالحة بين تربيته الدينية وبين جرأة التفكير التي نتعلمها من فلسفات هيدغر, نيتشه, دولوز, فوكو وباتاي وغيرهم (1) .

ومن أجل هذه ’الخصوصية‛ و ’الثوابت‛ يُطرح حل ’الأصالة والمعاصرة‛ من منطلق منهج الرغبة في التوفيق بين ’الحداثة والتراث”. عيب هذا المنهج أنه يتأسس على أيديولوجيات تحاول الانتصار لطرف على حساب الآخر وغالباً ما تكون الحداثة هي الطرف الخاسر في هذه المعادلة.

تكمن إشكالية التوفيق بين ’الأصالة والمعاصرة‛ و ’التراث والحداثة‛ في تحولها إلى أيديولوجيا يستحيل الحل إلا وفقاً لمعادلتها التي يريد لها دعاتها تعليق الهوية المستقبلية بزمانين مختلفين هما الماضي والحاضر, أو بالأحرى الماضي و الآخر, كون هويتها الحاضرة غائبة عن الفعل الحضاري.

وفقا لهذه المعادلة لا يكون التقدم إلا بالعودة إلى الوراء , فالعرب والمسلمين بسبب من تعلقهم بالماضي

أضحوا في إدراكهم لذاتهم وفي إدراك الآخرين لهم, أمة العصر الذهبي, ولكنه العصر الذهبي الذي إلى الوراء لا إلى الأمام, بل العصر الذهبي الذي لا يتعقل ذاته مستقبلاً إلا في صورة إحياء للماضي : فاليوطوبيا عندهم هي عبارة عن بعث (2),

وليست خلق وابتكار وإبداع .   

محاولات النهوض التي تتخذ من ’الخصوصية‛ العربية و ’الثوابت‛ الإسلامية مرجعية من أجل الخروج بحلول مفصلة على قياس هذه الخصوصيات والثوابت أصبحت تقف حجر عثرة أمام البحث عن جواب ناجع لسؤال النهضة. وكأن العرب بذريعة ’الخصوصية” و ’الثوابت‛ لا يريدون الشفاء من مرض التخلف ويستمتعون ببقاء حالهم على ما هو عليه. فحينما يعن للعرب والمسلمين وصف الحضارة الغربية بأنها حضارة مادية, في مقابل وصفهم لحضارتهم بالروحية, فإنهم بذلك يقررون بقاء الحال على ما هو عليه كونهم لم يفلحوا في إنتاج معادلة حضارية تجمع بين الروح والمادة, على اعتبار أن الحضارة الغربية, وفقاً لهذه المعادلة , تفتقر للروح. هذا الحكم على الحضارة الغربية بأنها مادية ناتج عن سوء فهم لنمط العيش وللحياة أو للحضارة الغربية التي يعتقدون أنها خالية من كل روح. وطالما أن الحكم من أساسه باطل جاز لنا القول بأن معادلة كهذه غير واردة إن لم تكن محض خيال منبعه سوء الظن بالآخر .

مفهوم ’الخصوصية‛ الإسلاموي مجرد نسخة عربية عن الأيديولوجيات الشمولية الأوروبية

مشكلة الخطاب الديني كما يراه المفكر نصر حامد أبو زيد أنه ”يلعب على أوتار ’الخصوصية‛‟، وكأننا بدع بين البشر، ما أصلح العالم لا يصلح لنا، دون أن يدقّق المخدوعون بمفهوم ’الخصوصية”- المطروح في الخطاب الديني – ليدركوا أنها خصوصية فقيرة جدّا ومغلقة ؛ لأنها تختصر هوية الإنسان في بعد واحد من الأبعاد العديدة، وهو بعد ’الدين‘ (3) .

في هذا الخطاب تكون

الأصالة والخصوصية هما ميزتا الذات , تشيران إلى الأنا مقابل الآخر , والذاتي مقابل العرضي , والطبيعي مقابل المصطنع , وليست الخصوصية بالشأن المقام مقابل الشمول والعمومية , ولكنه مقام مقابل فقدان النوعية , والذوبان في خصوصية أخرى . والخصوصية والأصالة يكمنان في التراث الذي يفيد العمق التاريخي ضد النقل , والأصالة ضد التذويب , والاستمرارية التاريخية والتجانس في الزمان . بهذا الشكل يصار إلى الإحالة إلى أصول مرسلة هي في مآلها علامة على استعداد محافظ عام للإذعان لقوى اجتماعية تشير إلى الوراء . هذا هو فحوى الدعوة إلى الاستقلال التاريخي التام للذات العربية (4) .

للخصوصية جذور فقهية حيث

يتضح أن فقهنا الإسلامي بُني على رؤية خاصة للإنسان ونظرة خاصة لحقوق الإنسان .. وهذه الرؤية الخاصة لها دور فعال وتأثير مهم في صبغ الفتاوى والنظريات الفقهية بصبغتها سواء عن وعي أو عن غير وعي .. فيجب على الفقهاء تجديد النظر في المسبوقات والمباني الفقهية وفضح البداهات التي تتوارى خلفها والسعي إلى إزالة الغبار عنها .. أي الاجتهاد في الأصول والفروع (5) .

في هذه الجذور الفقهية لمفهوم ’الخصوصية‛ الإسلاموي يمكن أن نلمح صورة من صور ’الشمولية‛ التي قاربها الدكتور عبد الكريم سروش من خلال مقارنته بين النظام الليبرالي والنظام التوتاليتاري من جهة, وبين النظام الليبرالي والفكر الديني السائد في مجتمعاتنا الشرقية من جهة أخرى .

فالحكومة الليبرالية هي نوع من المديرية المعقولة والعلمية المقترنة مع أدوات تحجيم القدرة والسلطة من خلال مبادئ الديموقراطية , أما الحكومات التوتاليتارية (ومنها الحكومات الدينية والإسلامية بطبيعة الحال) فإنها تقوم على أساس هداية الناس في مسار معين. ومن هنا كانت الحكومة الليبرالية منهجاً وأداة, وفي النظام التوتاليتاري نوعاً من الحق. وفي الليبرالية يتساءل الإنسان عن كيفية الحكم, وأما في التوتاليتارية يتساءل عمن يحكم ومن له حق الحكومة؟ .. في النظام الليبرالي تستفيد الحكومة من مشاركة الناس وعقولهم, وأما في النظام الشمولي التوتاليتاري فتستفيد الحكومة من عواطف الناس وتسعى لتسخيرها وإخضاعها. في الليبرالية يتم تحريك وتفعيل عقول الناس, ولكن في التوتاليتارية يتم تحجيمها وتكبيلها. في الليبرالية يعتمد الفكر الليبرالي على مقولة الحق, وفي غيرها على مفهوم التكليف (6) .

وهكذا يصبح مفهوم ’الخصوصية” الإسلاموي مجرد نسخة عربية عن الأيديولوجيات الشمولية الأوروبية, وهذا ما أكده ستيفن أولف في بحثه عن “التماثلات بين الأيديولوجية الإسلاموية المتطرفة والأيديولوجيات الشمولية لأوروبا القرن العشرين” والذي ذهب فيه إلى أن الأيديولوجيا الإسلاموية

لم تكن ظاهرة فذّة في ذاتها بقدر ما كانت نسخة شرق أوسطيّة عن الفاشيّة .

ويعتبر أولف أن مبدأ “الأصالة” مرتبط بنزعة نحو استرجاع طهارة بكر

عنت بالنّسبة للإيطاليّين استرجاع حيويّتهم الرومانيّة القديمة. أمّا بالنّسبة للألمان، فقد اقتضت إعادة طبع الحضارة الأوروبيّة بالطابع الآري وتطهيرها من العنصر القَبَليّ الدخيل. وبالنسبة للماركسيّين، سيكون الإنسان الجديد القادم خالياً من الرذائل المتراكمة للرأسمالية الحديثة، ومتفانياً في بناء المجتمع الجديد .. إن ما يربط هذه النزعة بالنّموذج الإسلاموي ، هو مبدأ الأصالة الذي يعتنقه الإسلامويّون الذين تتجلّى عندهم فكرة البعث في شكل ولادة جديدة من رحم الجاهليّة السابقة، على هيئة مجاهد مسلم جديد ومتجدّد. وفحوى هذه النزعة هي “إعادة التأصيل”، أي النزوع نحو استعادة الصيغة التي أكسبت المسلمين يوماً سموّهم الإلهي الذي انتزع منهم، ممّا سلبهم حيويّتهم (7) .

انطلاقاً من مفهوم ’الخصوصية‛ ومفهوم ’الثوابت‛ ما زال الخلاف قائماً بين طرف يعتقد بأن سبب تخلفنا هو الابتعاد عن الدين الحنيف, أوامره ونواهيه, وأن التقدم لن يتم إلا بالعودة إليها. هؤلاء معادلتهم بسيطة للغاية : إتباع أوامر الله + تجنب نواهيه = تقدم  , أو كما هي عند مالك بن نبي : وقت + تراب + إنسان = حضارة .

 وطرف ثانٍ يرى بأن التقدم لا يمكن أن يحدث دون الجمع بين عجلة الماضي وعجلة الحاضر . وطرف آخر يرى بأن التقدم يتم من خلال النظر إلى مشاكل الحاضر بعيون الحاضرين , ولا يكون الرجوع إلى الماضي إلا لتجنب مشاكله أو للجدال معه من أجل التجديد لا من أجل التمجيد . هذا الطرف لا يجد مانعا من استلهام تجارب الآخرين الذين سبقونا في تجاوز نفس الإشكاليات انطلاقا من أن الأفكار الإنسانية واحدة ولها طموح مشترك.


  1. حميد زنار , أسفار العقل , كتاب الرافد , ص 98 – 99
  2. جورج طرابيشي , المثقفون العرب والتراث , ص 76
  3. نصر حامد أبو زيد ,  مقال الفزع من العلمانية
  4. عزيز العظمة , العلمانية من منظور مختلف
  5. الدكتور عبدالكريم سروش , الدين العلماني , ص 103
  6. السابق , ص 72 , 73
  7. ستيفن أولف , الإسلاموية والشمولية , ترجمة جهاد الحاج سالم .The Westminster Institute, VA and Isaac Publishing, May 2012.
نصر حامد أبو زيد : الخطاب الديني “يلعب على أوتار “الخصوصية”

عبد الكريم سروش : “فقهنا الإسلامي بُني على رؤية خاصة للإنسان ونظرة خاصة لحقوق الإنسان”