تنوع الإجابات ظاهرة صحية عند توفر شبه إجماع حول قانون الحضارة وأسس التقدم . المشكلة في الإجابات المُجانبة للصواب أو تلك التي تسيء تقدير أو تشخيص الواقع مما يؤدي إلى طرح علاج غير ناجع وربما مضر . هذه واحدة من إشكاليات إخفاق مشروع النهضة العربي, تتفرع عنها إشكاليات أخرى يمكن استنباطها من باب المقارنة مع سؤال النهضة الأوروبية.

بقلم: رياض حمَّادي


الإجابة الحاسمة على سؤال النهضة الأوروبية تكونت نتيجة إرهاصات داخلية أصيلة تمخضت عن إحداث قطيعة مع تراث القرون الوسطى الغربية, بينما برز سؤال النهضة العربية نتيجة عامل خارجي هو الصدمة الحضارية التي نتجت عن تبين الفرق الشاسع بين العالمين العربي والغربي , فكان أن وُجدت إرادة النهضة من خلال الرغبة في حرق المراحل أو دون تلبية شرط القطيعة.

وهو ما يعني أن

“عصر النهضة العربي لم يكن معنياً بالقطيعة مع عصر الانحطاط بقدر ما كان معنياً بالرد على الجرح الأنتروبولوجي . وكما في كل جرح نرجسي , في علم النفس الفردي كما في علم النفس الجمعي , لم يكن أمام الرد إلا أن يتخذ أحد شكلين : إما محاولة إنكار الجرح بالذات وإما محاولة إبرائه ولأمه . وعصر النهضة العربي جسد المحاولتين كلتيهما : فمن ناحية – وذلك هو التيار السلفي بمختلف تنويعاته – عبأ عصر النهضة العربي نفسه للمنافحة , أي للدفاع عن معظم القيم الموروثة عن الماضي الزاهي وللتأكيد على استمرارها في الفاعلية وعلى قدرتها على المواجهة . ومن ناحية أخرى – وذلك هو التيار التحديثي بمختلف تلاوينه – صب عصر النهضة العربي جهوده على النقد , أي على تشريح مظاهر التأخر في المجتمع العربي وعلى بيان قصور تلك القيم في انتشاله من وهدته وعلى ضرورة التغيير في الفكر وفي الواقع , في الأذهان وفي الأعيان , حتى يستوي الشرق من جديد نداً للغرب ويستعيد مركزيته المهمشة” (1) .

النقد في الحالة العربية الإسلامية تركز حول الجواب على السؤال “لماذا تأخرنا ؟” , وهو ما يعني أن التفكير السائد ينحى منحى نظرياً أكثر مما يهدف إلى التوصل إلى حل للمشكلات من خلال وضع استراتيجيات عملية واضحة ودقيقة. وبتعبير مالك بن نبي هو تشخيص “لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه” . وهو علاج للأعراض لا للأمراض, حين يدخل العالم الإسلامي صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء, دون أن يعلم أي مرض يعالج ولا بأي دواء, ومن ثم استحق هذا الوضع تسمية “بادرة حضارة” أو “مرحلة إرهاص” (2) , أكثر منه “عصر نهضة”.

ما زال العرب والمسلمين يزنون الحضارة بميزان ديني ثنائي قديم هو ميزان الحق والباطل

المشكلة تكمن في نمط التفكير والتصور, الذي لا يتعب في البحث عن معالم النموذج الذي يتصوره ويهدف إليه في مشروعه السياسي والحضاري, والمنساق وراء التهويمات الأيديولوجية في حقل المعرفة السياسية والثقافية . من هنا كان السقوط في فخ الأيديولوجيا والأصولية هو المتوقع لهذه المسيرة (3).

الفارق الجوهري يتمثل في تأسيس الحضارة الغربية على مفهوم الحداثة, بوصفها قطيعة نقدية مع الماضي وعلى الجمع بين العلمنة والديموقراطية. في حين يراد لتأسيس نهضة عربية إسلامية, الفصل بين العلمانية والديموقراطية من جهة, والوصل مع الماضي “في عصره الذهبي” من جهة أخرى, أي مكافحة إسلام الانحطاط بإسلام الانفتاح كما عبّر طرابيشي. لكن الدعوة للعودة إلى الماضي, هي دعوة سلفية في أصولها حتى لو صدرت أحياناً من قبل أصوات تنويرية, كما أنها عودة غير ممكنة لاختلاف قانون الحضارة من عصر إلى آخر.

ما زال العرب والمسلمين يزنون الحضارة بميزان ديني ثنائي قديم هو ميزان الحق والباطل بينما الحق والباطل في نظر المنطق الحديث أمران اعتباريان والنزاع فيهما هو في أساسه نزاع على المقاييس أكثر منه نزاعاً على الحقائق. وقانون الحضارة الحديث قائم على البحث العلمي الذي بدوره يتأسس على الشك . وتجارب التاريخ تخبرنا بأن العلماء المحدثون لم يستطيعوا أن يبزوا أسلافهم في البحث إلا بعد أن اتبعوا طريق الشك, وعرفوا أن الإيمان والبحث العلمي على طرفي نقيض, فلا يستطيع المؤمن أن يكون باحثاً, ومن يريد أن يخلط بينهما فهو لا شك سيضيع المشيتين (4).

ازدواجية العقل النهضوي, نقدياً في مواجهة الذات, ودفاعياً في مواجهة الغرب , قضت عليه بشلل الفاعلية “إذ كان بدفاعه يلغي نقده مثله في ذلك مثل من ينفي باليسرى ما يثبته باليمنى” . يُضاف إلى ما سبق رغبة العقل الثوري في حرق المراحل حين “أراد أن ينتقل إلى الأيديولوجيا بدون المرور بثورة فلسفية ولا حتى بثورة لاهوتية”, وكانت النتيجة أن حرق نفسه (5) .

لكن إذا كان بالإمكان قيام اشتراكيات من دون نظرية ماركسية , فهل بالإمكان قيام أيديولوجيا دون المرور بثورة فلسفية ولا حتى بثورة لاهوتية ؟

هناك ضرورة لثورتين : ثورة لاهوتية وثورة فلسفية

هناك ضرورة لثورتين : ثورة لاهوتية, تحرر النص من النص, وهذه مرتبطة بثورة فلسفية مقدمة عليها من أجل تحرير العقل من النص. وضرورة تراتب أو تلازم الثورتين لأنه ليس بمقدورنا “أن نتصور فولتيراً عربياً بدون لوثر مسلم . وفي ظل غياب لاهوت إسلامي فلن ترى النور فلسفة عربية” . لكن تأخر ظهور لوثر مسلم أو امتناع العقل اللاهوتي عن أداء مهامه  قد يعني ظهور فولتير عربي يمارس مهام وفعالية العقل اللاهوتي من خلال العقل الفلسفي (6) .

هناك صعوبات تقف أمام إحداث قطيعة مع التراث الإسلامي تتمثل في غياب الفردية وسيادة فكر القطيع المفروض من قبل السلطة السياسية والدينية وأيضاً في سيطرة الفهم المركزي للنص الإسلامي على مخيال المؤمنين مما يعني أن نقده يشكل تجاسراً على الإيمان ذاته, ذلك لأن جمهور المسلمين لا يميز بين النصوص الإسلامية المقدسة والفكر الإسلامي باعتباره فهما بشرياً وتاريخياً للنصوص الأصلية . ومما يزيد الأمر صعوبة هو أن هذا الفهم يحظى بدعم الدولة المركزية (7) .

العلمانية والديموقراطية والحداثة

المقدمة الأولى لفصل الدين عن الدولة هي معرفة دور ووظيفة الدين في الدولة والمجتمع, والشك في قدرته على تفسير كل شيء, والوعي بأهمية الفكر الفلسفي والعقلي, وأهمية العلم وقدرته على تفسير العالم على نحو أفضل. ما يحدث هو خلاف ذلك, حيث ما زال الإسلام ورجاله يمثلون المرجعية الرئيسية, كما تشهد الثقافة الإسلامية الرجعية ازدهاراً, خصوصاً في جوانبها الخرافية وثقافة التدخل الإلهي في تفاصيل التاريخ البشري .

الاختلاف حول مفهوم العلمانية وتبنيها كحل ما بين قائل بالعلمانية “الجزئية” وقائل بالعلمانية “الشاملة” وما بين رافض للحل العلماني بحجة عدم الحاجة إليه. لأن الدين الإسلامي – كما يذهب محمد عمارة وآخرون – “دين ودولة” يميز ولا يفصل بين ما هو ديني وما هو دنيوي, بين ما هو سياسة وبين ما هو وحي.

بسبب هذا الفهم الرافض لتحديد مهام الدين ومهام الدولة يتم الفصل بين العلمانية وتوأمها الديموقراطية في الممارسة السياسية. دون وعي بأن تلازم العلمنة والديموقراطية والحداثة شرط ضروري للنهضة, ذلك أن  “العلمانية ثابت مركزي من ثوابت العلم والممارسة الديموقراطية, ومن المبادئ المؤسسة للاختيار الديموقراطي”, فلا ديموقراطية بدون علمانية (8) .

رفض القبول بالعلمانية والحداثة مبني على سوء فهم لموقف الحداثة من التراث مفاده التعارض التام بينهما, دون الأخذ بالاعتبار مرحلة “بعد ما بعد الحاثة” التي استردَّت للتراث موقعه في أن يكون شريكاً في الحاضر لكن على نحو نقدي لا تمجيدي. الخلاف إذن ليس في العودة إلى التراث بل في الغاية من هذه العودة , فهدف الإسلاميين هو تقديس التراث, مما يعني الاستمرار في تكريس التاريخ كعبء على الرسالة , بينما هدف الحداثة هو إعادة تكوين التراث , أي “انتفاضة العقل المكوِّن على العقل المكوَّن” أو تحرير الرسالة من عبء التاريخ بتعبير طرابيشي .

خلاصة الجهود النقدية في هذا السياق تُفضي إلى ثلاث نتائج رئيسية  : أسلمة العلمانية أو علمنة الإسلام أو بقاء الوضع كما هو عليه.

________________________..

  1. جورج طرابيشي , من النهضة إلى الردة , ص 10
  2. مالك بن نبي , شروط النهضة , ص 72
  3. أحمد القبانجي , من مقدمته لكتاب “الدين العلماني”
  4. علي الوردي , وعاظ السلاطين , 230 – 231
  5. جورج طرابيشي , مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام , ص 125
  6. السابق , ص 126
  7. حسن بزاينية, السيرة النبوية في ضوء النقد الجديد , مجلة نزوى , العدد 75
  8. جورج طرابيشي , المثقفون العرب والتراث , ص 69 (عن  : “مفهوم العلمانية في الخطاب السياسي العربي” لكمال عبد اللطيف)
برز سؤال النهضة العربية نتيجة الصدمة الحضارية

مالك بن نبي : التفكير السائد هو تشخيص “لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه”
جورج طرابيشي: هدف الحداثة هو “انتفاضة العقل المكوِّن على العقل المكوَّن”