نظرية معتلة وتطبيق مشوّه!

يتسم الخطاب الاسلاموي عادة باستخدام الشعارات المُعَمَّمة من شاكلة ”الاسلام دين ودولة“، ”الاسلام ديننا والشريعة قانوننا“، وذلك بما لهذه الشعارات من محمولات ثقافية وحضارية، عميقة الجذور، قادرة على إثارة المشاعر وتجيير مئات الملايين من البشر للوقوف خلفها.

بقلم: جمال عبد الرحيم عربي


لقد حالف الحظ اسلامويي السودان، النابعة حركتهم في أصلها من حركة الأخوان المسلمين، بأن يستولوا على السلطة بشكل مطلق بحجة تطبيق ”شرع الله“، حيث كانوا أول حركة سياسية اسلاموية تجد المجال متسعاً أمامها لتفيذ تلك الشعارات بدون مقاومة تذكر من أي جهة. كما أعادوا هيكلة الخدمة العامة، المدنية والعسكرية، لتصبح محكومة بشكل كامل بشعارات هذه الحركة ومنقادة تماماً بمنسوبيها. لقد شكل السودان بذلك وضعاً نموذجياً لتقييم هذه الأيديولوجيا وشعاراتها، تقييماً نظرياً وعملياً، متيحاً بذلك فرصة نادرة للعلمانيين، لدراستها بعمق، في اتجاه تقوية خطابهم الفكري والسياسي المعادي للأيديولوجيا الاسلاموية في مجموعها. 

تستند الأيديولوجيا الاسلاموية على قطبين رئيسيين، أولهما: علم أصول الدين، الذي يهتم بأمور التوحيد وإثبات وجود الخالق ودرء الشبهات عنه، أي الجانب العقدي؛ وساحته الأساسية هي علم الكلام. أما ثانيهما، فهو علم اصول الفقه، الذي يُعنى بالأحكام الشرعية، أي الجانب المعاملاتي؛ ومنتجه الرئيسي هو ما نطلق عليه اسم الفقه، أو الشريعة. 

شكل السودان وضعاً نموذجياً لتقييم هذه الأيديولوجيا تقييماً نظرياً وعملياً، متيحاً بذلك فرصة نادرة للعلمانيين لدراستها بعمق

هذا الجانب تحديداً، جانب الشريعة، هو ما تَبْنِي عليه الأيديولوجيا الاسلاموية شعاراتها وبرامجها. أما لماذا ذلك، فلأن قضايا العقيدة ليست مجال اختلافات كبيرة في المجتمع الاسلامي، كما أنها ضعيفة الارتباط بمصالح الناس وقضاياهم اليومية، لذا لن تشكل مدخلاً مناسباً لأي ايديولوجيا تريد السيطرة والوصول للحكم. لا يُغيِّر من هذه الحقيقة كثيراً وجود خلافات هنا أو هناك تُجَيَّر فيها الاختلافات العَقْدية في السياسة، كما هو الحال في الصراع القائم بين السعودية وإيران مثلاً. أما الشريعة، وباعتبار تعاملها أصلاً مع قضايا الحياة اليومية، فهي التي يمكن النفاذ من خلالها لساحات الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي.  

تدور قضايا الفقه أو الشريعة في ثلاثة فضاءات مختلفة: فقه العبادات، فقه السياسة، وفقه القانون؛ حيث يُعْنَى هذا الأخير بالتعامل مع الأحكام الشرعية في مسارات مختلفة أبرزها القانون الجنائي (الحدود والقصاص)، قوانين الأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والمواريث)، وقوانين الاقتصاد والمال. 

لقد تم الانتهاء من وضع أصول الفقه في القرن الثالث الهجري، حيث حددت مصادره الأساسية في القرآن والسنة والاجماع والقياس، كما ابتُدِعَت قواعده التي تشمل طائفة واسعة من الآليات والمبادئ مثل: ”لا اجتهاد مع النص“، و ”المعلوم من الدين بالضرورة“، و”العبرة بعمومية اللفظ وليس بخصوصية السبب“، وغيرها كثير؛ ثم من بعد ذلك  تأطَّر في شكل المذاهب الأربعة المعلومة: الحنفي، المالكي، الشافعي، والحنبلي. 

من المؤكد أن العمل بالفقه بدأ قبل ذلك بكثير، وذلك عندما وجد العرب أنفسهم يديرون امبراطورية هائلة تكونت في وقت وجيز بدون أن يكون لديهم منظومات قانونية وإدارية وثقافية راسخة لإدارتها. بل في الواقع لم تكن هنالك دولة مركزية أصلاً في الجزيرة العربية، حيث كانت القبائل هي التكوين الاجتماعي الأرقى والأقوى، وأخلاق وأعراف هذه القبائل، هي الاطار القانوني الحاكم لها. لقد كان الانتاج الفكري الأساسي المعروف لديها هو الشعر الوصفي الذي يدور حول محاور حياة البداوة: الفخر والغزل الحسي والحماسة والهجاء. 

أدى انتصار الإسلام كدين، إلى توحيد الجزيرة العربية في شكل دولة يرأسها الرسول (ص) نفسه. لقد حَتّمَ هذا أن يكون للرسول (ص) صفتين، إحداهما كنبي ورسول، وثانيتهما كزعيم وقائد لهذه الدولة. والحال كذلك لابد أن يكون للرسول (ص) أقوال وأفعال واقرارات، لممارسات حياتية كانت شائعة في ذلك الوقت، مرتبطة بوضعه كرئيس وكزعيم، بيد أن هذه الأقوال والأفعال والإقرارات تحولت إلى نصوص مقدَّسة لاحقاً، على الرغم من الرسول (ص) أمر بوضوح عدم تسجيلها، اعترافاً من جانبه بأنها ذات طابع ظرفي غير مستديم. 

تجاوزت أصوله بأكملها تقريباً، جاعلة فروعه معلقة في الهواء بلا سيقان

إضافة للتوسع الانفجاري للدولة العربية الناشئة تلك، ولخلو الثقافة العربية الموروثة من منظومات فكرية يمكن أن تعالج القضايا التي طرأت على هذه الدولة الجديدة و الموحدة، المترامية الأطراف، كان لا بد للعرب من استحداث الفقه ليملأ الفراغات الموجودة، مستندين في ذلك على النص القرآني وممارسة الرسول (ص) التي تم اعتبارها جزءاً من الدين وليس  آراء وأحكام أصدرها بصفته زعيماً ورئيساً للدولة الجديدة، هذا على الرغم من احتشاد التراث الفقهي والعقدي بالكثير من الأدلة على ظرفية الأحكام والمفاهيم التي اتخذت سمة الخالدية.

لا تنشد هذه الورقة التعمق في تحليل العوامل التي دفعت العقل الجمعي المسلم لاعتبار الانتاج الفكري للعلماء والفقهاء المسلمين الأوائل جزءاً من الدين نفسه، يُحصَر التعامل فيه للمؤسسة الدينية فقط؛ وإنما تستهدف من خلال تعرضها لتجربة السودان في تطبيق الأيديولوجيا الإسلاموية، التي تعتبر الشريعة الاسلامية ذروة سنامها، تبيان أن هذه الأيديولوجيا وهمٌ كبير، مُخْتَلَفٌ عليه نظرياً، وغير قابل للتطبيق عملياً.

فعند تناولنا للفقه السياسي، المُصْطَلَح عليه بالسياسة الشرعية، والذي يشمل الأحكام الخاصة بالحكم والقضاء، سنجد أن التجربة الإسلاموية في السودان، قد تجاوزت أصوله بأكملها تقريباً، جاعلة فروعه معلقة في الهواء بلا سيقان. فقد تبنت الحركة الاسلاموية بالسودان، ومنذ نهايات ثمانينات القرن الماضي، مبدأ أن منشأ الحقوق والواجبات في الدولة هو المواطنة وليس الدين أو العرق أو النوع؛ ومبدأ أن السلطة للشعب يمارسها من خلال المؤسسات الدستورية السائدة في عالم اليوم؛ ومبدأ سواسية الناس أمام القانون؛ وما إلى ذلك من مبادئ تعارض أصول الفقه الاسلامي في جانبه السياسي. لذا سقط من عناوين الأيديولوجيا الإسلاموية السودانية الكثير مما كان من ثوابت الفقه السياسي التقليدي، كفقه الولاء والبراء، وفقه الجهاد، وأحكام الغنائم والخراج، وما إلى ذلك من أحكام ترتبط بآلة الدولة. صحيح، أنه يجرى أحياناً استخدام بعض جوانب هذا الفقه، مثل فقه الجهاد، في أمور التعبئة والتحشيد السياسي، لكن الصحيح أيضاً، أن هذا المنتج ليس له وجود في منظومة الحكم نفسها من دستور وقانون وما إلى ذلك.

مواضيع قد تهمك

عودة إلى علي عبد الرازق

تجدر الإشارة هنا، إلى أنه قد تم الاستغناء عن كامل هذا الفقه من قبل الحركة الاسلاموية السودانية، بدون تنظير؛ ما عدا إشارات مقتضبة إلى صحيفة المدينة المنورة التي أبرمها المسلمون مع الكيانات الأخرى بالمدينة، وهي اتفاقية نُسِخَت لاحقاً بواسطة الفقه التقليدي استناداً على نصوص دينية واضحة. كما تم الاستغناء تماماً، وفي صمت، عن مبدأ الحاكمية الأصولي، والذي مثَّل ولوقت طويل القاعدة النظرية الأكثر صلابة، للفقه السياسي، وبسببه هوجم الشيخ الأزهري المعروف على عبد الرازق وطرد من هيئة العلماء قبل أكثر من مئة عام بمصر، لقوله بمدنية الدولة.  

ومثلما تم التخلص من الفقه السياسي، بدون ضجة تذكر كما أوضحنا، فقد تنصّل إسلاميو السودان أيضاً عن الكثير من ثوابت الفقه الجنائي، وبهدوء أيضاً! نقدم فيما يلي نماذج محدودة على ما تم التنصل عنه، قاصدين أن نختار من تلك النماذج اكثرها شهرة، وأوسعها انتشاراً في التصورات الشعبية عن الشريعة الاسلامية:

1. من المُجْمَع عليه بين علماء المذاهب الأربعة، وبدون استثناء، أن بتر كف اليد هو عقوبة السرقة إذا استُوفى شرط النصاب (حوالي 4.25 جرام من الذهب)، مع وجود خلاف طفيف بين الفقهاء في مقدار هذا النصاب. أما القانون الجنائي السوداني لعام 1991، القائم بالكامل على الشريعة كما يقول واضعوه، فقد أضافت المادة 172 (ب) منه، والتي تختص بتحديد موجبات إسقاط الحد، شرطاً آخر للإسقاط، وهو: ”إذا كان الجاني في حالة ضرورة ولم يأخذ من المال إلا بما لا يجاوز النصاب فوق كفاية حاجته أو حاجة من تجب عليه نفقته للقوت أو العلاج“. هذا الشرط ”فوق كفاية حاجته أو حاجة من تجب عليه نفقته للقوت أو العلاج“، والذي لم يرد في فقه المذاهب الأربعة، يجعل من المستحيل عملياً تطبيق هذا الحد، حيث أن تقدير حاجة السارق وحاجة من تجب عليه نفقتهم للقوت والعلاج، مسألة تخضع للتقدير الذاتي من جانب السارق، خاصة عندما نضع في الاعتبار أن المادة القانونية المشار إليها، لم تضع قيداً زمنياً أو حدوداً كَمِّية للمسروق تفرض على السارق أن لا يتجاوزها.

2. من المعلوم والمتفق عليه بدون استثناء أن الدية الكاملة، وهي المقابل المادي عن إزهاق الروح البشرية، تساوي في الشريعة ما مقداره 100 رأس من الجمال؛ وهو ما سار عليه القانون الجنائي السوداني لعام 1991 في المادة 42 التي عرَّفَت الدية بأنها 100 من الابل أو ما يقابلها نقداً وفقاً لما يصدره رئيس القضاء بين كل فترة وأخرى. أما ما قدره رئيس القضاء السوداني، في آخر تعميم له بخصوص الدية، وهو التعميم رقم 4/ 2016، فهو 330,000 جنيه سوداني! أي حوالي 600 دولار أمريكي بأسعار اليوم 12 أبريل 2022 بالسودان! أي أن قيمة الجمل المحسوبة لأغراض الدية في القانون السوداني تعادل 6 دولار أمريكي فقط!

3. من المعلوم والمتفق عليه بين كل المذاهب الفقهية، فإن دية المرأة تعادل نصف دية الرجل، أي تساوي 50 من الجمال، بيد أن القانون الجنائي السوداني لا يفرق في الدية بين الرجل والمرأة.

4. يبيح القانون السوداني، القائم على الشريعة كما يصفه واضعوه، شهادة الكافر على المسلم أو للمسلم، وذلك في مخالفة لإجماع كل المذاهب على عدم جواز شهادة الكافر  بحكم الآية: “ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً”. يوجد استثناء وحيد ونادر، وفوق كل ذلك مُختلف عليه بين المذاهب، وهو إباحة قلة من الفقهاء بشهادة الكافر على المسلم في حالة الوصية في السفر، وهي إذا احتاج المسلم إلى أن يوصي وهو على وشك الموت، وليس ثمة مسلم يشهد على وصيته إلا أهل الكفر؛ أما فيما عدا ذلك فلا تجوز شهادة الكافر على المسلم!

حاولنا من خلال النماذج المحدودة أعلاه، أن نثبت أن أيديولوجيا الاسلامويون، بالإضافة إلى أنها تعكس اختلالاً فكرياً وأخلاقياً، فإنها تفتقد للتماسك والمصداقية والمنهجية حتى بمعاييرهم نفسها. وربما يستحق الإشارة للدلالة على ذلك، أن كاتب هذه السطور، اتصل بأعلى مراجع في الإدارة العامة للسجون بالسودان للحصول على إحصاءات عن عدد حالات بتر الأيدي أو القطع من خلاف أو جرائم القصاص فيما دون النفس (مثل فقأ العين بالعين وما إلى ذلك)، إلا انهم افادوا بعدم وجود أي حالة في كل القطر منذ صور ذلك القانون وحتى الآن.

الجدير بالذكر، أن هنالك الكثير مما يعرفه العالم عن مآسي تطبيق الشريعة الاسلامية في السودان، كمضايقة النساء في ملبسهن، والتعرض لهن بالجلد والإهانة، إنما كان من خلال قانون يسمى ”قانون النظام العام“، وهو قانون لا يستند في غالبه على فقه المذاهب الأربعة، بيد أنه يستلف عنها وسيلة العقوبة المتمثلة في الجلد.

ونحن إذ نقدم التجربة السودانية برهاناً على هشاشة أيديولوجيا الاسلامويين، فإن الغالبية العظمى من الاسلامويين، في خارج السودان أيضاً، يقبلون بالكثير من الممارسات المعارضة للشريعة الاسلامية. وكمثال على ذلك، فإن الفقه الموروث يُحرِّم  الضرائب والجمارك (المكوس)،  كما يُحَرِّم أيضاً تسعير البضائع والخدمات؛ و ذلك استناداً على أحاديث نبوية صحيحة من الزاوية الفقهية، إلا أن الفقهاء، حللوا ذلك، باستخدام فقه الضرورة.

الطريف في الأمر، أن فقه الضرورة هذا، الذي استنوه استناناً وجعلوه من القواعد الفقهية الأساسية، هذا الفقه نفسه يُعرِّف الضرورة باعتبارها الحاجة الملجئة لإنقاذ النفس من الهلاك كأن يضطر المسلم لأكل الميتة مثلاً، أو للنطق بالكفر في حالة التعرض لتعذيب شديد يمكن أن يؤدي للموت. أما أن تكون الضرورة المعنية مرتبطة بتحقيق رفاهية الناس مثلاً وتنظيم إدارة حياتهم، كما هو الحال في مسألتي الضرائب والتسعير، فهذا يُعتبر باباً من أبواب التلفيق ليس إلا، مثله ومثل إلغاء أردوغان حكم الإعدام بتركيا إذعاناً لمعايير الانضمام للاتحد الأوروبي!

نفذ العقيد عمر البشير الشريعة الإسلامية على المستوى الوطني عام 1989

حسن الترابي (١٩٣٢-٢٠١٦): استسقى بشكل انتقائي من الفكر السياسي السوداني والإسلامي والغربي لصياغة أيديولوجية للوصول إلى السلطة