مجرّد سؤال: هذا المصحف الذي نقرأ فيه ما تيسّر لنا أن نقرأ، أو نرتله ترتيلا مسترسلا من الفاتحة إلى المُعوّذتين، أو نقسم به في بعض الأحيان، هل هو بالتمام والكمال نفس القرآن كما تركه لنا خاتم الأنبياء، ترتيباً وتبويباً وكتابة وإعراباً؟
بقلم: سعيد ناشيد
هل مصحف عثمان هو نفسه قرآن محمد، بلا خلاف؟ الجواب، لا النافية، وبالخط العريض. لماذا؟
1/ نبدأ من حيث يجب أن نبدأ؛ ترتيب القرآن، هل هكذا كان في زمن النبي محمد؟
ليس يخفى أن قرار جمع وترتيب القرآن وجعلِه في شكل مصحف جامع، مشروع شاق ومعقد بدأه المسلمون عقب وفاة الرسول، إبّان خلافة أبي بكر الصديق، وتم إنجازه زمن خلافة عثمان بن عفان، ثم خضع النص العثماني بعد ذلك لتقلبات كتابية ونحوية وخطية كثيرة على مر العصور، بحيث لا نملك اليوم أيّ يقين حول شكل النسخ الأصلية التي أشرف عليها عثمان. عدا ذلك، ترك النبيُّ قرآنه آيات منجّمة، متناثرة، متفرقة، غالبا ما كانت شفهية، ودائما ما اتسمت بالأسلوب الشفهي، ومات ولم يتركها مرتبة في أي كتاب جامع أو نص محدّد، ولا هو أوصى بذلك.
كتب القرطبي يقول :
“كان القرآن في مدّة النبي ( ص ) متفرقاً في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صُحف وفي جريد وفي لخاف ( حجارة بيض رقاق ) وظُرر ( حجر له حد كحد السكين ) وفي خزف وغير ذلك. فلما استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه، وقُتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء، كأُبيّ وابن مسعود وزيد، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتب السور، بعد تعب شديد رضي الله عنه”[1].
لا نملك اليوم أيّ يقين حول شكل النسخ الأصلية التي أشرف عليها عثمان
غير أن تحوّل القرآن إلى مصحف لم يتحقق إلا في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وفي هذا الأمر رواية يرويها الكثيرون على النحو التالي:
“قال ابن شهاب : ثم أخبرني أنس بن مالك الأنصاري أنه اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق، قال : فركب حذيفة بن اليمان لما رأى من اختلافهم في القرآن، إلى عثمان، فقال : ان الناس قد اختلفوا في القرآن حتى والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف، قال : ففزع لذلك عثمان فزعا شديداً، فأرسل إلى حفصة فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر أمر زيدا بجمعها[2]، فنسخ منها مصاحف فبعث بها إلى الآفاق”[3].
بل، ليس يخفى أن ترتيب بعض الآيات كان يتمّ بنحو توافقي، بل إعتباطي في بعض الأحيان. ومن أمثلة ذلك ما أورده أبو بكر بن أبي داود السجستاني في روايته :
“أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله (ص) شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في المصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان، فقُتل وهو يجمع ذلك، فقام عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال : من كان عنده من كتاب الله شيئا فليأتنا به، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان. فجاء حزيمة بن ثابت فقال : إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوها، فقال : وما هما؟ قال تلقيت من رسول الله (ص) : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ) إلى آخر السورة. قال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟ قال : أختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختم بهما براءة”[4].
غير أن هذه الرواية التي اتفقت حولها معظم كتب التراث، تثير مسألة بالغة التعقيد، إذ أننا حتى لو افترضنا تجاوزاً أن اشتراط شاهدين إثنين لتصحيح الآية قبل تدوينها يكفي لضمان عدم تسرب آيات غير قرآنية إلى القرآن، إلاّ أن هذا الشرط لا يحقق لنا هدفين أساسيين :
أولاً، لا يضمن لنا عدم وجود ثغرات في الذاكرة الإملائية للقائم بالإملاء، أو في التقديرات النحوية للقائم بالكتابة، لا سيما وأن اللغة العربية لم تكن قد خضعت للتقعيد، أو ليس بعد.
ثانياً، لا يضمن لنا عدم إهمال آيات قد تكون جزءاً من القرآن المحمدي لكنها لم تجد الشاهدين الإثنين، أو لم تجد أحدهما. ولعل الآية السابقة التي أحضرها حزيمة بن ثابت قبل الاتفاق على وضعها في آخر سورة براءة، كادت تُهمل لو لم يتطوع عثمان ليشهد بأنها من عند الله. علما بأنه شهد بأنها من عند الله، ولم يشهد بأنه سمعها من رسول الله، كما هي العادة في مثل هذا الموقف.
حجم المصحف الذي وصلنا، أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي
2/ ثانيا، من حيث حجم المضمون، هل يتضمن المصحف الذي بين أيدينا جميع آيات القرآن المحمدي؟
نحن متأكدون من شيء واحد، هو أن حجم المصحف الذي وصلنا، أصغر بكثير من حجم القرآن المحمدي، أي أنه أقل من مجموع الآيات التي نزلت على الرسول عليه السلام. وذلك لشاهدين نصيين أساسيين :
- على الأقل، لا توجد ضمن المصحف العثماني الآيات المنسوخة ولا الآيات المنسية. فمن المعلوم أن ضمن الناسخ والمنسوخ آيات نُسخت لفظاً وقراءة وكتابة، وهناك آيات نسيها الرسول قبل أن يحفظها أو قبل أن يمليها أو قبل أن يكتبها كتبة الوحي، وربما نسيها الجميع بعد ذلك، ولم تعاود النزول ثانية، أو أنها على الأقل لم تعاود النزول بنفس الأسلوب. وهو ما تؤكده الآية: ( ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأت بخير منها أو مثلها ) سورة البقرة، الآية 106.
- على الأقل، حُذف منه تنوع الأساليب والألفاظ التي نزلت بها بعض أو معظم الآيات. فالقرآن أنزل على سبعة أحرف كما هو معلوم ومذكور، ما يعني أن كثيراً من الآيات نزلت أكثر من مرّة بألفاظ وعبارات ومفردات مختلفة. إلا أنه أثناء جمع المصحف تم الاستغناء عن ذلك التنوع اللغوي لفائدة حرف وحيد وواحد، هو لسان قريش.
التحوّل من القرآن المحمدي إلى المصحف العثماني، مشروع طويل شاق، وشائك مليء بالمخاطر
هذا في الحد الأدنى الذي تؤكده شواهد النص. لكن الأمر فيما يبدو أكبر من ذلك، حيث ترجح الدراسات القرآنية التراثية أن تكون بعض الآيات أو السور قد ضاعت. ولم يكن هذا الأمر يحرج المسلمين والذين كانوا يحتملون مثل ذلك الضياع تحت طائلة ما نُسخ لفظه، أو ما تم نسيانه، تبعاً للموقف القرآني نفسه : ( وما ننسخ من آية أو ننسها… ) الآية.
التحوّل من القرآن المحمدي إلى المصحف العثماني، مشروع طويل شاق، وشائك مليء بالمخاطر، هو المشروع الذي اصطلح عليه المفكر العربي جورج طرابيشي باسم “مصحفة القرآن”[5]. ولسنا نبالغ، ونحن نستلهم هذا المفهوم، إذا قلنا أن المصحفة استمرت إلى ما بعد عثمان، حيث خضع مصحف عثمان نفسه لتغيرات رافقت تطور اللغة وانتقال الثقافة العربية من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية. فبين النسخ الأولى للمصحف العثماني والنسخ المتأخرة، مرّت تسمية السور بعدة إجراءات، وشهد تنقيط الحروف عدة مراحل، وخضعت كتابة بعض الحروف للكثير من التعديلات، إلخ.
مواضيع قد تهمك
المشكلة أن القرآن المحمدي تحول منذ زمن عثمان بن عفان إلى مصحف “مقدس” -زادت من قداسته قصة المصحف الملطخ بدم عثمان-، وأصبح نصا مغلقا في ترتيب آياته وسوره، ولم يعد يمنحنا أي فرصة لإعادة تركيب أجزائه بنحو يختلف عن المصحف الرسمي. وبالتالي، خسر المسلمون الإمكانات التأويلية التي كان يتيحها لهم الطابع المفكك والمتناثر لآيات القرآن المحمدي. وهو الأمر الذي أفقر في الأخير إمكانيات تأويل الخطاب القرآني وحصرها داخل دائرة ضيقة، زاد من ضيقها أن مصحفة القرآن تمّت في العالم القديم، وجاءت من ثم موسومة بميسم القدامة شكلا ومضموناً.
(١) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مراجعة وضبط محمد ابراهيم الحفناوي، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية 1996، ص : 67.
(٢) هي النسخة التي كانت عند أبي بكر في خلافته، ثم ظلت عند عمر في خلافته، ثم تركها عمر عند حفصة.
(٣) أبو بكر بن أبي داود السجستاني، كتاب المصاحف، تحقيق د. محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 2002، ج:1، ص : 202.
(٤) أبو بكر بن أبي داود السجستاني، كتاب المصاحف، تحقيق د. محب الدين عبد السبحان واعظ، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الثانية 2002، ج:2، ص : 224 و225.
(٥) جورج طرابيشي، إشكاليات العقل العربي، دار الساقي، بيروت- لندن، الطبعة الرابعة 2011، ص : 63.
الصورة الرئيسية: مخطوطات صنعاء (حوالي 670 م) ، النسخة الوحيدة المعروفة الباقية من تقليد نصي بخلاف التقليد العثماني القياسي. يتوافق النص العلوي مع “القرآن العثماني” القياسي ، بينما يحتوي النص السفلي على العديد من المتغيرات للنص القياسي.