أقول وأؤكد دائماً، إن النص القرآني مجرّد تأويل للإشارات الرّبانية التي تلقاها النبي القرشي عبر مخيلته، واجتهد في ترجمتها إلى كلمات وعبارات. ولذلك قلنا وقال آخرون قبلنا، إن أقوال القرآن متأثرة بشخصية الرّسول عليه السلام.

بقلم: سعيد ناشيد


والآن، كيف نستدل على ذلك؟  مثالان أساسيان: إذا استحضرنا أن الرّسول نشأ يتيماً في صغره، ثم امتهن التجارة داخل مجتمع يقوم على التجارة، فإننا نستطيع أن نتبين أثر هذه الخلفية السوسيوثقافية على مخيلة الرّسول، ومن ثم على النص القرآني:

  1. النبي اليَتيم:

اليُتم موضوع ثري من جملة المواضيع الإحسانية في القرآن المحمدي، بل لعله الموضوع الإحساني الأكثر ثراء وتكراراً. وبوسعنا أن نحصي حوالي عشرين آية قرآنية تدعو بصيغ تعبيرية مختلفة، إلى إكرام اليَتيم والإحسان إليه. بل، نلاحظ أن التوصيات الإحسانية والإكرامية غالباً ما تذكر اليتيم قبل المسكين. والآيات كثيرة من قبيل:

لا تعبدون إلاّ الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين… (سورة البقرة، الآية 82)

البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيئين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين…(سورة البقرة، الآية 177)

يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل…  (سورة البقرة، الآية 215)

وآتوا اليتامى أموالهم… (سورة النساء الآية 2)

وإن خفتم ألا تُقسطوا في اليتامى…  (سورة النساء، الآية 3)

وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين…  (سورة النساء، الآية 36)

ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده  (سورة الأنعام، الآية 153)

واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين…  (سورة الأنفال، الآية 41)

ألم يجدك يتيما فآوى  (سورة الضحى، الآية 6)

فأما اليتيم فلا تقهر  (سورة الضحى، الآية 9)

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا  (سورة النساء، الآية 10)

وأغلب الظن، إن الآية الأخيرة هي التي دفعت الفقهاء إلى استنتاج أن أكل مال اليتيم كبيرة من كبائر الإسلام -العشرة حسب البعض، والسبعة في رواية أخرى-.

  1. النبي التّاجر:

امتهن الرّسول التجارة داخل قبيلة عربية يقوم نشاطها السوسيواقتصادي على التجارة ( لإيلاف قريش، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف ) سورة قريش، الآيتان 1 و2. ولذلك نفهم كيف جاء النص القرآني على نحو ” مليء بالحواريات التجارية،(١) وبالمصطلحات التجارية –كما يلاحظ المصلح الديني الإيراني عبد الكريم شروس- من قبيل ” خسر، ربح، تجارة، قرض، ربا، بيع، شراء، أجر، وأمثال ذلك” (٢). وبوسعنا أن نضيف إلى ذلك وسائل قياس الأوزان، من قبيل الوزن، الميزان، الكيل، المكيال، المثقال…

أربع ملاحظات:

الملاحظة الأولى، يتكلم القرآن المحمدي عن التجارة أكثر ما يتكلم عن أي حقل إنتاجي آخر. والآيات كثيرة، مثلا: 

 لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ  (سورة النساء الآية 29) 

وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كسادها  (سورة التوبة الآية 24)

رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ  (سورة النور، الآية 37) 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال ( سورة البقرة الآية  254)

وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا  (سورة البقرة الآية 275) 

وإن رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها…  (سورة الجمعة، الآية 11)

إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه…  (سورة البقرة، الآية 282)

الملاحظة الثانية، كثيرا ما يتكلم القرآن المحمدي عن مسائل العقيدة والعلاقة مع الله برؤية تجارية. مثلا:

من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة  (سورة البقرة، الآية 245) 

وأقرضتم الله قرضا حسنا…  (سورة المائدة، الآية 13) 

يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم  (سورة الصف، الأية 10) 

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ  (سورة البقرة الآية 207)   

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ )سورة البقرة  الآية  16)

الملاحظة الثالثة، كثيراً ما يستعمل القرآن الكريم نفس الوسائل والأدوات التي يستعملها التاجر، مثل الميزان والمكيال والمثقال، سواء في حديثه عن التجارة أو حديثه عن العقيدة. مثلا: 

وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ( سورة هود، الآية 84) 

وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( سورة هود، الآية 85) 

ويل للمصطفين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزّنوهم يُخسرون  (سورة المصطفين، الآيات 1 و2 و3)

وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ  (سورة الحديد، الآية 25)

وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم ( الأعراف، الآية 9)

والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ  (سورة الرحمن، الآيات 7 و8 و9 )

والملاحظة الرابعة، إن نظام العقوبات في النص القرآني غالباً ما جاء بنحو يرضي مزاج التاجر، داخل سياق سوسيواقتصادي يقوم أساساً على التجارة. ولا أدلّ على ذلك من أن جرائم السرقة وقطع الطريق، وهي أخشى ما يخشاه التاجر، تندرج ضمن نظام الحدود، والتي لا يجوز فيها العفو أو التساهل، وتكون عقوبتها بقطع يد السارق، وبقطع أطراف قاطع الطريق ( حد الحرابة ). 

مواضيع قد تهمك

ليس القُرآن هو الوحي

وفي المقابل فإن الربا، رغم تجريمها وتحريمها القطعي في النص القرآني – ( …أحل الله البيع وحرم الربا… ) سورة البقرة، الآية 275 و( يمحق الله الربا… ) سورة البقرة، الآية 276- إلا أن النص القرآني لم يحدد للربا أي حد من الحدود، ولا أي عقوبة من العقوبات. وكذلك الأمر بالنسبة لجرائم الغش والرّشوة والاحتكار، وهي جرائم اقتصادية قد يقترفها التاجر، وذكرها النص القرآني بالتحريم، مثل الآية ( ويل للمصطفين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزّنوهم يُخسرون ) سورة المصطفين، الآيات 1 و2 و3، إلا أنها جرائم من دون عقوبات قرآنية محددة، وقد أدرجها الفقهاء ضمن العقوبات التعزيرية، وهي عقوبات اجتهادية مخففة بالمقارنة مع حد السرقة وحد الحرابة.


(١).  عبد الكريم شروس، بسط التجربة النبوية، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، بيروت-بغداد، 2009، ص: 65

(٢)   المراجعة عينها.

“وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ”: مجموعة من موازين الصائغ وأوزانه (من إيران، منتصف القرن التاسع عشر)