الاجتهاد في أصول الفقه هو بذل الوسع في طلب العلم بأحكام الشريعة (راجع الغزالي مثلاً). ويمكن تقسيمه الى قسمين كبيرين. الأول هو الاجتهاد النصي وهو يدور على كيفية استثمار الأحكام مع الألفاظ. وقد بذل علماء أصول الفقه في القديم جهداً كبيراً للبحث في قضايا النص من دلالة وإشارة واقتضاء وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وأمر ونهي وغير ذلك. والثاني هو الاجتهاد القياسي، فالأكثرية رأت أن النصوص لا تفي بالحاجة واستثمار الأحكام الجديدة لا يكون إلا بالقياس.

بقلم: د. محمد الحدّاد


وقام علماء أصول الفقه هنا أيضاً بجهد مهم لتعيين أشكال القياس وفرعوا هذه الأشكال الى أن أصبحت مبحثاً طويلاً ومعقداً كما نرى مثلاً لدى الآمدي (ت 631 هـ) في «الإحكام في أصول الأحكام» أو ابن الحاجب (ت 646 هـ) في «منتهى الأصول والأمل في علمي الأصول والجدل». وقد تميّز الشاطبي (ت 790 هـ) في كتاب «الموافقات في أصول الشريعة» برؤية متكاملة حول القياسات لا تقوم على قياس الفرع على الفرع وإنما استخراج الفروع من الاصول والقواعد العامة. وفقهاء الحنفية كانوا قد استفتحوا طريقة مشابهة تقوم على وضع قواعد تشريعية كبرى، أما الشاطبي فقد طوّر فكرة ترجع بأصولها الى الغزالي (ت 505 هـ) ومحصلها وضع مقاصد شرعية كبرى تبنى عليها الفروع. وطريقة الحنفية هي الأقرب الى التشريعات الرومانية والحديثة.

وإذا تأملنا مباحث القياس في كتب أصول الفقه وجدناها تتعلق بقضايا ثلاث مختلفة.

الأولى – قضية حمل دلالة اللفظ العام على الحالات الجزئية. فإذا قلنا مثلاً «كل مسكر حرام» فإننا حكمنا بتحريم كل أنواع المسكرات التي كانت معروفة في الجزيرة العربية وكل المسكرات التي ظهرت وتظهر على مرّ العصور. ويعتبر ابن حزم الظاهري أن هذه الحالة ليست قياساً لأن المنع كامن في العبارة ذاتها «كل مسكر حرام» وما يدعوه فقهاء المذاهب قياساً ليس إلا حمل اللفظ على مجموع الدلالات الممكنة. وهذا الرأي فيه كثير من الوجاهة.

الثانية – قضية حمل حال فرعية على حال فرعية أخرى لقوّة الاشتراك بينهما. مثال ذلك القياس المنسوب إلى علي بن أبي طالب عندما سئل عن حدّ السكر، فقال:

«من شرب الخمر سكر ومن سكر هذى ومن هذى افترى، فحدّه حدّ القاذف».

 وهذا الشكل من القياس مرفوض لدى الظاهرية ورأيهم لا يخلو من وجاهة لأن المشترك بين حالتين ليس مطرداً ثابتاً فلا يمكن أن نجزم مثلاً أن كل من شرب قذف والمطابقة التامة بين حالتين أمر استثنائي.

الثالثة – تطبيق أصل أو قاعدة أو حكم كلّي على حال فرعية، وهذا النوع من القياس معروف في التشريعات القديمة والحديثة، وقد رفضه الظاهرية وأجابهم المدافعون عن القياس بأن استخراج الأحكام يتعذّر من دون ذلك وهذا جواب منطقي في حدود المنظومة الفقهية القديمة. ولم تبلغ عناية علماء أصول الفقه بتدقيق الأصول والقواعد عنايتهم في أشكال القياس فمباحث الشكل هي التي استهوتهم أكثر.

إذا تأملنا هذه اللوحة المختزلة لمناهج التفكير التشريعي رأينا أن علماء أصول الفقه قديماً كانوا مدركين ان استنباط الأحكام ليست قضية هيّنة ولا يكفي أن نسرد نصاً ليتضح منه الحكم. ولعلنا لا نجازف إذا قلنا إن فكرة «لا اجتهاد مع النص» ليست من بنات أفكارهم بمعنى أنها لم تكن تعني عندهم ما تعنيه اليوم لدى البعض من المعاصرين. فهم أدركوا أن النص ليس ناطقاً بذاته وأن الذي يتقدم لتفسيره لا بد من أن يكون قادراً على التمييز بين العام والخاص والمطلق والمقيّد والدلالة والاقتضاء وغير ذلك.

علماء أصول الفقه قديماً وأرسطو قبلهم لم ينتبهوا الى شيء مهم وهو التاريخية

وهذه المباحث غير مختصة بأصول الفقه، فهي أيضاً مباحث علوم اللغة والبلاغة والنقد الأدبي وبعضها يرتبط بالمنطق. فإذا كان النص مصدراً دينياً فإن طرق الاستنباط اللغوي هي طرق بشرية مستعملة في النص الديني والنص الأدبي بل في كل أنواع النصوص. والإنسان يستعمل العمليات الذهنية نفسها أمام كل قول لغوي كيفما كان نوعه.

والتصنيفات التي وضعها علماء أصول الفقه ليست تصنيفات دينية وإن طبقت على نصوص دينية. فالعام والخاص والمطلق والمقيد والدلالة والاقتضاء تشمل كل نص. وذلك مثل قولنا إن الجملة تتكوّن من مسند ومسند إليه، فهذه قاعدة تصحّ على كل جملة سواء أوردت في سورة من القرآن الكريم أو قصيدة مجون لأبي نواس أو نص معرّب لكارل ماركس. وما لا يراه المعاصرون من أصحاب مقولة «لا اجتهاد مع النص» هو أن القدامى قد صاغوا آليات ونظريات حول النص كانت مستندة لمعارف عصرهم وقد قامت في العصر الحديث العلوم اللسانية والدلالية بإعادة التفكير في الكثير من هذه القضايا.

وكما اشترط القدامى في من يتصدى للنص بالتفسير أو الفتوى أو الاجتهاد أن يكون عالماً باللغة، واللغة تعني التفكير اللغوي وليس قواعد النحو والصرف، فيكون منطقياً أن يشترط في المعاصرين العلم بقضايا اللسانية والدلالية الحديثة وبما يسمى بعلم التأويل الحديث وفلسفاته المختلفة. ولا يقال إن هذه العلوم غير إسلامية لأن آليات التأويل هي آليات بشرية ليست مرتبطة بدين أو مذهب أو عرق، وسنرى أن مباحث القياس كانت تقتبس من شروح المنطق الأرسطي. وعندما انحطّت العلوم اللغوية وأصبحت مجرد قواعد جافة في النحو والصرف تحفظ عن ظهر قلب انحطت معها مبادرات الاجتهاد وأصبح الفقه أيضاً قواعد جافة للحفظ والعرض.

فإذا انتقلنا الى القسم الثاني المتعلق بالقياس وقضاياه الثلاث التي عرضنا فإننا نجد القدامى قد اقتبسوا من المنطق ليكون لهم عوناً على تحديد أشكال القياس، وقد رأى المسلمون المنطق علماً مشتركاً بين الأمم. وعمل علماء كبار في أصول الفقه، مثل الغزالي وابن حزم، على إثبات أن قواعد المنطق الأرسطي موجودة في كلام العرب، ما يعني أن المنطق آليات ذهنية عامة لدى البشر. وعندما نقرأ المباحث القياسية المعقّدة، كما ترد لدى ابن الحاجب مثلاً، فلا نشكّ في كونها متأثرة بالشروح الإسلامية على المنطق الإغريقي وبمصادر غير إسلامية كانت تدرّس في المؤسسات التعليمية الإسلامية الى عهد قريب مثل «إيساغوجي» الذي يرجع الى منطقي إغريقي اسمه بورفيريوس وصاغه في اللغة العربية أثير الدين الأبهري.

لكن علماء أصول الفقه قديماً وأرسطو قبلهم لم ينتبهوا الى شيء مهم وهو التاريخية. القياس يستدعي التجريد، فقياس الحال الطارئة على الحال القديمة يقتضي أن تنتزع الأولى من سياقها التاريخي، وهذا الانتزاع قد يكون مبرراً إذا حصل بعد تبين السياق أما من دون ذلك فتحصل مزالق شتى. ولئن ابتدع المفسرون مباحث «أسباب النزول» لتبيّن السياقات فإن علماء أصول الفقه لم يفكروا في شيء شبيه بذلك في ما يتصل بالفروع التي يقيسون عليها، وتوجد في كتب أصول الفقه مباحث في الألفاظ والقياسات ولا توجد مباحث في التاريخية ولا في ما دعته البلاغة القديمة بالمقام. وتاريخية الأفكار والأحكام هي فكرة لم تتطور إلا في العصر الحديث وما زالت العلوم الإسلامية القديمة، ومنها الفقه وأصول الفقه، في حاجة الى تبيّن تاريخيتها فضلاً عن تبيّن تاريخية كل ما احتوته من آراء وأحكام.


الصورة الرئيسية: “الإيساغوجي” – ترجمة أثير الدين الأبهري ل- Εἰσαγωγή لبورفيريوس (“المقدمة” إلى المنطق الأرسطي)، في مخطوطة من شمال أفريقية تعود إلى القرن الثامن عشر. الحروف الحمراء هي النص الأصلي، والحروف السوداء بارة عن شرح، والهوامش هي تعليقات على الشرح.