لعلنا ندرك من خلال هذا العرض أن العلماء المسلمين القدامى كانوا منفتحين على المعرفة الكونية المتاحة في عصرهم بكل ما تحويه من ثراء ومن نقائص. والمهم هو هذه الروح العامة التي أدركت أن مباحث الألفاظ ومباحث القياسات هي مباحث بشرية مشتركة بين كل الناس وأن الاختلاف والخصوصية يتعلقان بالنص موضوع التأويل وليس بآليات التأويل ذاته. وهذا الموقف المنفتح قد ضاع في عصور الانحطاط وتبدد في العصر الحديث.

بقلم: د. محمد الحدّاد


والأصولية الإحيائية ما فتئت تضخم من ادعاءاتها وتشددها حتى أنك ترى وتسمع أشخاصاً لا يميزون بين المرفوع والمنصوب ولا علم لهم بالمطلق والمقيد والدلالة والاقتضاء يدّعون مع ذلك استخراج الدلالات من النصوص ويغلقون كل نقاش بعبارة «لا اجتهاد مع النص» لأنهم غير واعين بالمباحث الخصبة التي احتواها التراث حول قضايا التعامل مع النصوص، فهم خوارج العصر الحديث يستسهلون التأويل والتكفير والعنف بسبب قلة العلم والإدراك.

إننا لم نتعرض الى حد الآن إلا للاجتهاد الفرعي الذي يتمثل في طلب العلم بأحكام فروع من النوع نفسه فهي إما أن تكون مشمولة بالدلالة العامة للفظ أو تأتي نتيجة قياس أو نتيجة تطبيق الكلي في الجزئي. دعنا الآن نطرح سؤالاً آخر: هل يمكن أن تعامل كل الحالات المستحدثة باستثمار الأحكام من الألفاظ والقياسات؟

سنحاول الجواب عن هذا السؤال من خلال حادثة ذات قيمة مرجعية نستعرضها أولاً كما وردت لدى الإخباريين القدامى ثم نتناولها بالتفكير والتحليل. ففي سنة 17 هـ / 638 م أتمّ المسلمون سيطرتهم على العراق وانتزعوه من أيدي الفرس وطرح عليهم آنذاك مشكل مهم هو مصير الأراضي الضخمة التي استولوا على معظمها بالقتال، فهي تعدّ من باب الغنيمة وليس من الفيء، وحكم الغنيمة أن يقسّم أربعة أخماسها بين المقاتلين ويسلّم الخمس الباقي الى الخليفة. حصل نقاش بين كبار الصحابة حول الموضوع فطالب البعض بإجراء القسمة على هذا الشكل ورأى آخرون أن هذا الحل غير ممكن. ومن حسن الحظ أن تغلّب الرأي الثاني، إذ ندرك حجم الكارثة التي كانت ستحصل لو قسّمت أراض زراعية ضخمة بين مقاتلين لا يحسن معظمهم فن الزراعة. إذاً لحدث مجاعات مروّعة بين سكان العراق وبين المقاتلين أنفسهم ولاعتبر الفتح الإسلامي جناية على الجميع. ثم إن مساحة العراق الشاسعة لا تقارن بمساحة أرض من الأراضي التي دار حولها النزاع في العهد النبوي كي يصلح أن تقاس عليها.

إن الجزء الأكبر من الاجتهاد الذي نحتاج في العصر الحديث ليس من الاجتهاد الفرعي الذي يدور على دلالات الألفاظ وأشكال القياس

هذه قضية لم تحلّ بدلالات الألفاظ ولا بأشكال القياسات. الحل الذي ارتضاه المسلمون آنذاك هو وقف ريع الأرض على بيت مال المسلمين. هذا اجتهاد جديد وغير مسبوق اقتضته المصلحة العليا للمجموعة والتصرف السليم في الممتلكات. لم يطبق المسلمون في هذه الحال مبدأ «لا اجتهاد مع النص» ولا شكلاً من أشكال القياس التي تضمنتها لاحقاً كتب أصول الفقه، فهذا الاجتهاد يمكن أن نطلق عليه «الاجتهاد النوعي» وقد أغفلت المراجع القديمة تمييزه عن أبواب الاجتهاد الفرعي. وإذا كانت المسافة الزمنية من العهد النبوي الى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أحدثت تغيرات نوعية اقتضت اجتهادات نوعية فما الحال بأربعة عشر قرناً من تاريخ المسلمين؟

لا نحتاج كبير تفكير لنستنتج إننا إذا أخذنا فترة مرجعية (أ) ثم تجاوزناها بمسافة تاريخية (ب) فإن التناسب بين الاجتهاد الفرعي والاجتهاد النوعي هو تناسب عكسي، بمعنى أنّ الأوّل يتقلّص والثاني يتضخّم بمقدار اتساع المسافة التاريخية (ب). فإذا راجعنا كتب الفقه على مرّ العصور وجدنا الأمر على خلاف هذا التوقع المنطقي. وتفسير الأمر في رأيي ليس أن المجتمعات الإسلامية تجمدت وإنما كتب الفقه وأصوله هي التي توقفت منذ القرن الرابع الهجري على أن تعكس تعقيدات هذه المجتمعات وتطوراتها.

لنتأمل بعداً آخر في المثال المرجعي المتصل بتوزيع أراضي العراق من خلال التساؤل الآتي: هل اتخذ الخليفة وقادة الجيش ومجموعة الشورى القرار بصفتهم مجموعة من الفقهاء أم اتخذوه بصفتهم الهيئة المستأمنة على المصلحة العليا للمجتمع؟ وإذا تصوّرنا المشهد ذاته يتكرر في العصر الحديث فهل كان سيدور في مجمع فقهي أم في البرلمان؟ وهل سيكون المرجع في القضية ما قال زيد وعمرو من القدامى أم ما تحدده الهيئة المستأمنة على المصلحة العليا للمجموعة في السياق الخاص الذي تتنزّل فيه الواقعة؟

إذا سلّمنا بمنطق التحليل الوارد في هذا المقال وصلنا بالضرورة الى النتيجة الآتية: إن الجزء الأكبر من الاجتهاد الذي نحتاج في العصر الحديث ليس من الاجتهاد الفرعي الذي يدور على دلالات الألفاظ وأشكال القياس لكنه من الاجتهاد النوعي الذي مداره المصلحة وموقع النقاش فيه البرلمان والمتأهلون للخوض فيه هم المستأمنون لتمثيل المجتمع ومصالحه العليا. والمشكلة الكبرى هي غياب التمييز بين نوعي الاجتهاد ومعاملة كل الحالات من الزاوية نفسها، فهذا ما يمنع قيام اجتهاد جديد، ولا تكفي الدعوة الى فتح باب الاجتهاد ما لم تتوافر الأرضية المناسبة لقيامه.

والمقترح الحقيقي الذي قدّم في هذا الاتجاه، وقد بقي يتيماً هامشياً بين الكتّاب المسلمين، هو ما كان كتبه محمد إقبال منذ سبعين سنة:

«إن انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب الى هيئة تشريعية إسلامية هو الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط في ما خيّم على نظمنا التشريعية من سبات ونسير بها في طريق التطور» (راجع: «تجديد الفكر الديني في الإسلام»).


انظر الجزء الأول لهذه المقالة هنا

محمد إقبال: مقترحه ليجتهد جديد بقي ‘يتيماً هامشياً’