رفاعه مؤسس النهضة الفكرية الحديثة قبل مطلع القرن التاسع عشر هذه النهضة التي استقاها من شيخه حسن العطار وساهم الطهطاوي بتاسيس البنى النهضوية الفكرية فيما بعد حيث لولا شجاعته بتصديه لمسائل تعتبر من المحرمات في وقته لما انفتح الباب فيما بعد لرواد النهضة بتقييم اسس اخرى وايجادها لرفعة الفكر وتحرره .

بقلم: ياسر جاسم قاسم


ان فكر رفاعة فكر موسوعي بشكل كبير ولكن ما ميزه هو مصطلحين اكثر رفاعه من استخدامهما الا وهما الحداثة والتحديث ولهذين المفهومين اسس في حياة رفاعه حيث استقاهما من استاذه حسن العطار الذي يقول:

ان بلادنا لا بد ان يتغير حالها ويتجدد من المعارف ما ليس فيها

ومعنى تغير الاحوال هو التحديث والتمدين للبنية الاجتماعية عامة اما تجدد المعارف فهو القول بالحداثة الفكرية والقيمية والمعنوية والسلوكية عامة وهو مخاض نهضوي تجسد في هذا المفهوم الجديد للزمن والتاريخ في تجربة الشيخ الطهطاوي 

وبهذين المفهومين اي الحداثة والتحديث ارتفعت تجربة رفاعة فوق المفاهيم القديمة للزمن والتاريخ التي كانت منغلقة في الرؤى والمفاهيم الدورية او السلفية الاسترجاعية ولعل هذه الرؤية الزمننية التاريخية الموضوعية التي تعمقت برحلته المكانية الى رؤية وخبرة زمنية تاريخية اخرى اكثر رقيا وتقدما في فرنسا التي ساهمت في شحذ همته في المجال التفكيري العقلائي وان يتخلص اكثر فاكثر من الحدود والقيود السلفية والتوفيقية والى الارتفاع الى افاق الرؤية العقلانية المستقبلية اي الى افق الترقي والتمدن والنهضة ولهذا يعيد رفاعة بناء الخريطة التاريخية للانسان في مراتب ثلاث .

الاولى هي مرتبة الهمل المتوحشين والثانية مرتبة البرابرة الخشنين والثالثة مرتبة اهل الادب والظرافة والتحضر والتمدن والعمران والسؤال الذي يجب ان نطرحه هنا قبل الخوض بفكر رفاعة بشكل اكثر عمقا هل ما زال فكر رفاعه بعد مرور اكثر من مائة سنة طريا وقابلا للعمل به في المجتمعات؟ والجواب نعم بسبب انتكاس فكر النهضة الذي ابتداه رفاعه الذي تكلم عن سلوكيات التربية لدى الطلبة الذكور والاناث على حد سواء في كتابه المرشد الامين للبنات والبنين في 400 صفحة وقد راج في حينه هذا الكتاب رواجا عظيما فسرعان ما نفدت طبعته الاولى واعيد طبعه بعد عامين من وفاة المؤلف اي سنة 1875م. وهذا الكتاب يصنف بانه اول كتاب في التربية يسجله الادب العربي الحديث .

عمقت برحلته في شحذ همته في المجال التفكيري العقلائي


كم استطعنا ان نرتقي بواقعنا التربوي السلوكي داخل مدارسنا وداخل البيئة الاجتماعية التي تحتضننا الى ما ذهب اليه رفاعه الطهطاوي قبل اكثر من مائة سنة من افكار ومسائل ؟ والجواب لا شيء في حقيقة الامر الا بعض الامور من هنا وهناك وافكار بسيطة جدا .

كما انها في جوهرها تعني الخروج عن دائرة الجمود والظلامية والاقطاعية والاستبداد السلطوي تاكيد لحرية الانسان الفردية والاجتماعية والفكرية والابداعية وفاعليته التغييرية في المجتمع والطبيعة ايضا وفي التقدير العام ان الحداثة والتحديث لا ينتميان الى الحاضر فحسب بل هما دلالتان تاريخيتان اي تعبران عن تحققات موضوعية يتجاوز بعضها بعضا دون الغاء الطابع الحداثي 

وهنا نتوقف ونتتسائل الى اي حد يمكن اعتبار دعوة رفاعة ا لطهطاوي هي دعوة حداثية ذات توجه تحديثي ؟ 

ان اغلب الدراسات التي تناولت رفاعة تعتبره مفكرا توفيقيا يسعى الى مد جسور بين الشريعة والمجتمع وتكاد تكون الشريعه لديه هي المصدر والمنطلق 

وهذا الراي نجده بمستوى متميز عند الشاعر الكبير ادونيس حيث يقول:

ان الطهطاوي ينظر الى التمدن من موقع الايمان المطلق المسبق بالدين الاسلامي وصحته فاصلا بين العلم والدين وهو يرى تبعا لذلك ان معرفة الالات التي يتم بها تحسين الحياة والعمران ويتم التمدن اجمالا لا تتناقض مع الدين بل على العكس يحث على هذه المعرفة وعلى هذا يجب على المسلم طلب هذه المعرفة والسعي اليها وان كانت لدى غير المسلمن اي الكافرين ولكن يجب بالمقابل صد جميع الافكار التي تفسد الدين وتع مرفوضة بمقتضاه هناك 

اذن كما يقول ادونيس على مستوى تحسين الحياة امكان التوفيق بين الدين والعلم غير ان هناك انفصالا كاملا بينهما على مستوى النظر الى الله والوجود والاخرة ويخلص ادونيس من هذا الى اننا

لا نرى عند الطهطاوي شيئا جديدا يضيفه نظريا الى الموقف التوفيقي الذي وقفه الفلاسفة العرب القدامى وخصوصا ابن رشد واكدوا فيه الوحدة بين الدين والفلسفة بل ان ابن رشد كان اكثر عمقا واكثر بعدا في التحليل العقلي واكثر حذرية

 ثم ينتهي ادونيس من هذا الى حكم عام على مرحلة عصر النهضة العربية كلها في القرن التاسع عشر قائلا : وفي هذا يمثل الطهطاوي نموذجا لعصر النهضة الذي ساد الحياة العربية الحديثة على مستوى النظام ومؤسساته .

ويثير بعض المفكرين عدة اشكاليات على دعوة ادونيس هذه حول رفاعه الطهطاوي ومنها:
اولا:
انه يقرر ان الطهطاوي اقتصر الى الدعوة الى معرفة الالات وهذا غير صحيح بل لقد دعا الى معرفة ما وراء صناعة الالات من علوم نظرية بل حتى تلك العلوم النظرية التي تتناقض مع التعالم الدينية بل اتخذ من بعض الاحاديث النبوية اساسا داعيل بل فارضا ضرورة هذه المعرفة وبهذا فهو لم يفصل بين العلم والدين وان ميز بين بعض الحقائق العلمية النظرية والحقائق الدينية ووقف من ذلك التمييز والتعارض موقف التعجب او التشنيع او الرفض لا موقف الانفصال الكامل وهنا نذكر بيتين طريفين له في هذا الشان:

ايوجد مثل باريس ديار
شموس العلم فيها لاتغيب
وليل الكفر ليس له صباح
اما هذا وحقكم عجيب


ومثل قوله ان الفرنساوية من الفرق التي تعد التحسين والتقبيح من شان العقل (ولعله يذكرنا هنا بموقف المعتزله) ثم يقول:

واقول هنا انهم ينكرون خوارق العادات ويرون انه لا يمكن تخالف الامور الطبيعية اصلا وان الاديان انما جاءت لتدل الناس على فعل الخير واجتناب ضده وان عمارة الدنيا وتفرق الناس وتقدمهم في الاداب والضرافة تسد مسد الاديان …الخ.


ثانيا: 
وليس صحيحا ان الطهطاوي لم يضف جديدا الى الموقف التوفيقي الذي وقفه الفلاسفة المسلمون القدامى وخاصة ابن رشد،


أ‌- ان المقارنة من ناحية غير جائزة لان الفلاسفة المسلمين القدامى ومن بينهم ابن رشد وقفوا عند حدود الفكر النظري الخالص في محاولتهم التوفيق بين الشريعه والحكمة ولم تكن هذه المهمة الفكرية للطهطاوي فهو ليس فيلسوفا وانما هو فكر عملي او مبشر ديمقراطي تقدمي وان كنا نجد في الحقيقة هذا التوفي بالطبع في فكره وان لم يتعمقه فلسفيا ولكنه اشار اليه في اكثر من موضع .


ب‌- ان الطهطاوي تجاوز فضلا عن هذا الفكر النظري كما ذكرنا الى الفكر العملي التطبيقي اي الى تغيير الحياة بمقتضى المصلحة متمشيا مع فقهها وخاصة عند ابن القيم الجوزية وبمقتضى ما ومصل اليه الفكر العلمي الحديث رغم ما يقدم عليه من اسس لا تتفق مع حرفيا ما جاء به الشرع.


ت‌- ان جوهر فكر الطهطاوي وجوهر دعوته ليس هو اثبات الا تعارض بين الفكر العلمي والدين او التمسك في الدين اساسا اي ليست دعوته في جوهرها دعوة الى التوفيق وانما في تقديري جوهر دعوته هي العقلانية الديمقراطية في اطار الدين بل لعل دعوته الى الديمقراطية السياسي كانت تتضمن فصل الدين عن الدولة او حرية الاختيار السياسي دون التزام بدين محدد بحسب قاعدة المصلحة او بتعبير اخر كذلك : ان الجانب العقلاني العملي العمراني في فكره هو السمة المميزة لهذا الفكر او بتعبير ثالث اكثر وضوحا وحسما اننا نستطيع القول بانه حاول واجتهد في سبيل تطويع الدين لاحتياجات العصر بل تطوير الدين تطويرا يتفق واحتياجات التمدن والتحضر وبتعبير رابع هو مفكر عقلاني ينظر الى الدين من زاوية ضرورة التمدن والتحضر ولا ينظر الى التمدن والتحضر من زاوية الدين وبتعبير خامس اتجاسر بالقول بانه لم يتخذ الدين معيارا واساسا للتحضر والتمدن وانما العكس من ذلك اتخذ من التحضر والتمدن اساسل للنظر الى الدين.


ث‌- ولهذا فليس صحيحا ان يعتبر الطهطاوي نموذجا بالمعنى السان سيموني على حد تعبير الاستاذ محمود امين العالم اي نموذجا لفكر النهضة مستندا الى الفصل بين الدين والعلم وعلى التعارض بينهما او التوفيق بينهما من زاوية الجانب العملي الصناعي فقط ذلك ان عصر النهضة الاسلامي العربي كان يجمع بين اكثر من تيار فكري فالى جانب هذا الفكر العقلاني الديمقراطي الذي تعبر عنه كتابات الطهطاوي كان هناك الفكر الوهابي المتزمت الذي كان يذهب الى انه ((لا يصلح حاضرنا الا بما صلح به ماضينا )) وكان هناك الفكر العقلاني غير الديني مثل فكر شبلي شميل اي لم يكن هناك نموذج نهضوي واحد.

الصورة الرئيسية: لوحة قديمة تعود للقرن التاسع عشر لبوليفار مونمارتر ، باريس

رفاعة الطهطاوي: نظرة خاصة إلى الحداثة والتحديث

التنزيل للنص من هنا (14 ميجا بايت)