“العَلْمانية الإسلامية” مصطلح مُفزع ومقلق لكثير من رجال الدين وبعض الليبراليين الرومانسيين. وهو مصطلح جديد في التسمية ولكنه قديم في التطبيق. نرى أن العمل به الآن هو الدواء الناجع والواقعي والعملي للرد على بعض رجال الدين من اتهام العلمانيين العرب بالإلحاد.

بقلم: شاكر النابلسي


ومن ذلك قول راشد الغنوشي من أن “الطرح العلماني لعلاقة الدين بالدولة متأثر بالنمط الغربي ولا سيما في صورته الفرنسية والشيوعية المتطرفة” في كتابه (مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام) وقول الشيخ يوسف القرضاوي من أن “العَلْمانية إلحاد” كما في كتابه (الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه).


فإذا أردنا الإصلاح العلماني السياسي على وجه الخصوص، فليكن من داخل الإسلام وليس من خارجه. والعلمانية هي طريق الإصلاح. ولا طريق لعلمانية تطبيقية غير طريق “العَلْمانية الإسلامية” التي نجح في تطبيقها أول الحكام العلمانيين العرب المسلمين، وهو الخليفة معاوية بن أبي سفيان.


مصطلح “العَلْمانية الإسلامية” كان واقعاً موجوداً ومطبقاً، في الناحية المالية، منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان، الذي فصل جزئياً، وخاصة في مجال المال العام بين الدين والسياسة، وقال قولته المشهورة:

” كان عمر بن الخطاب يمنع أهله عن بيت المال إرضاءً لله، وأنا أعطي أهلي إرضاءً لله‟.

وذلك تعليقاً على الذين احتجوا وثاروا عليه لتخصيصه بني أمية بمال كثير من بيت مال المسلمين، وتخصيص المناصب العليا كالولاية لهم. وهو يعتبر بذلك أول حاكم في التاريخ العربي الإسلامي أقرَّ وطبَّق سياسة “المحاصصة” المعروفة اليوم في العالم العربي بين الطوائف الدينية والعرقية، والتي ورثها عثمان عن أبي بكر في “حادثة السقيفة”، يوم قال له الأنصار “منكم أمير ومنا أمير” فقال لهم “منا الأمراء، ومنكم الوزراء” وأردف: ” إن الخليفة يجب أن يكون قرشيّاً، إذ إن الناس لا يطيعون إلا هذا الحيّ من العرب”. وأبو بكر ورث نظام “المحاصصة” من الرسول الذي وزع غنائم “غزوة حنين” على أهله وعشيرته، وحرم منها الأنصار.

والخليفة عثمان، هو الحاكم، الذي صنع تاج بني أمية الملكي، ووضعه على رأس معاوية بن أبي سفيان الذي أكمل علمانية الخليفة عثمان، وزاد عليها، وفصل كليةً بين الدين والسياسة. فهزم السياسي معاوية رجل الدين التقي علي بن أبي طالب بمؤازرة أحزاب سياسية كانت على الساحة. وسار على هذا النهج كافة خلفاء بني أمية ما عدا عمر بن عبد العزيز. وتبعهم خلفاء بني العباس، وكان الأمويون في الأندلس على المنهاج نفسه.

وهذه الأحداث كلها من “غزوة حنين” إلى انتهاء الدولة العباسية، كلها دالة على فصل الدين عن الدولة، وهي علامة من علامات العَلْمانية. وكذلك كان ملوك الطوائف بعد سقوط الدولة العباسية 1517 وبدء الاستعمار العثماني للعالم العربي على هذا المنوال.

وكانت الخلافة الإسلامية العثمانية قد فصلت الدين عن السياسة بأكثر مما فعلت الخلافتان الأموية والعباسية بحيث أن كمال اتاتورك عندما أسقط هذه الخلافة الإسلامية عام 1924، لم يجد شيئاً جدياً يسقطه فقام ببعض التصرفات الشكلية الحمقاء منها منع الحج لعدة سنوات، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، وخلع اللباس التقليدي.. الخ، مما دفع بعض المفكرين كمحمد أركون إلى إطلاق صفة “الشيوعية” على حركة أتاتورك وليس “العَلْمانية” والتي كانت من أهم الأسباب في تعثر تقدم العَلْمانية في العالم العربي إذ يتخذ رجال الدين من المثال الأتاتوركي العَلْماني – وهو قياس فاسد- وسيلة لتنفير الشارع العربي من العَلْمانية.

ويعجبني في هذا المقام قول راوية الحديث الأشهر أبي هريرة، وكأنه كان يضع أسس العَلْمانية الإسلامية دون أن يدري فيقول:

”أصلي وراء علي، فالصلاة وراء علي أفضل. وآكل على مائدة معاوية، فالأكل على مائدة معاوية أدسم. وأجلس على الربوة، والجلوس على الربوة أسلم‟.


والمسلمون الذين بايعوا معاوية على الخلافة، بعد استشهاد علي بن أبي طالب، كانوا يضعون بذلك أسس العَلْمانية الإسلامية عندما قالوا لمعاوية كشرط لمبايعته:

”نحن للأمة في أمور دينها، وأنت للأمة في أمور دنياها‟.

 وهذا التقسيم للعمل بين الخلفاء والفقهاء، بذرة علمانية إسلامية واضحة، يا ليتنا اليوم نسمعها من فقهائنا. ومعاوية نفسه أسس مقدمات العَلْمانية الإسلامية عندما توقف عن إمامة الصلاة بالناس، وسمّى إماماً آخر يصلي بالناس بدلاً منه. وهذا التقسيم بين إمامة الدولة وإمامة الصلاة كان مشروع دولة عَلْمانية، لم يكتمل بعد. ومن المعروف أن الخلفاء بعد معاوية توقفوا عن إمامة الصلاة بالناس.

والطريق إلى العَلْمانية في العالم العربي مستقبلاً لن تكون إلا من داخل الإسلام وليس من خارجه، بعد أن فشلت جهود الكثيرين من اليساريين من قوميين وماركسيين وشيوعيين وحتى إسلاميين (علي عبد الرازق، وخالد محمد خالد، واليوم جمال البنا مثالاً) في المناداة بالعَلْمانية بعيداً عن الإسلام، وبعد أن نجحت دعوة الكثير من رجال الدين في مهاجمة العَلْمانية من داخل الإسلام واتهام العلمانيين بالإلحاد، وأنهم خوارج هذا الزمان.

وبذا، يكون الرد الشافي على رجال الدين المتعصبين هو الدعوة للعلمانية من داخل الإسلام، وليس من خارجه كما أخطأنا في الماضي، وضاعت جهودنا سدىً على مدار أكثر من نصف قرن مضى. وهذا يستدعي العلم الوافي. وهو السلاح الذي تسلّح به الشيخ علي عبد الرازق، والشيخ خالد محمد خالد، والشيخ خليل عبد الكريم، ويتسلح به الآن الشيخ التنويري جمال البنا، وأحمد صبحي منصور، الذي يقول بأن “أقرب دين إلى العَلْمانية هو الإسلام”.


الصورة الرئيسية: عملة معاوية بن أبي سفيان ، أول الولاة العرب العلمانيين – ضُربت في دارابجيرد (فارس) 54-55 هـ / 674-675 م. والنقش في اللغه البهلوية : ماوية أمير / ويرويشنيكان (“معاوية ، أمير المؤمنين”).

الخليفة الأخيرعبد المجيد الثاني: لم يجد أتاتورك في نظامه شيئاً جدياً يسقطه