كثيرون من يستعملون الشريعة كسلاح فتاك في حربهم على الحريات الفردية وعدوانهم على حقوق الإنسان، بحيث يرفضون تحديد سن الزواج، ويجرمون الحق في الإجهاض، ويتحفظون على مبدأ المساواة بين الجنسين في العمل أو السفر أو السياقة أو الزواج أو نحو ذلك.

بقلم: سعيد ناشيد


لكن ما الشريعة أوّلاً؟ بادئ الأمر أقول : ليست الشريعة أقوال القرآن ولا أقوال الرّسول، لكنها تعني على وجه التحديد ذلك المجهود الفقهي الذي استغرق أزيد من ألف عام، وأثناءه حاول الفقهاء أن يستنبطوا من النص القرآني –وقد أضافوا إليه أقوال وأفعال الرّسول أيضاً- قوانينا عامة وتشريعات كونية. فقد حاول الفقهاء على مدى قرون طويلة استنطاق مساحات الصمت التشريعي في النص القرآني وإرغامها على الكلام، وذلك بدعوى أن القرآن “قال كل شيء” ! لكن السؤال : هل قال القرآن كل شيء بالفعل؟ أو على الأقل، هل يطوي بين ثناياه إمكانية الكلام عن كل شيء بحيث لا يبقى أمامنا سوى أن نستنطق صوامته ونكلم سكتاته؟

الإجابة بنعم هي الأسطورة المؤسسة للفقه، ومن ثم للشّريعة، ومن ثم للغلقة اللاهوتية والتطرّف الديني.

عدا ذلك، ولأنّ استنطاق النص القرآني لم يكن كافياً حتى باستعمال القياس وفق معايير غير واضحة وغير محدّدة، فقد أضاف فقهاء السنّة أقوال وأفعال الرّسول وأقوال وأفعال الصحابة أيضاً، بل أضافوا حتى أقوال التابعين وتابعي التابعين، ومقابلهم أضاف فقهاء الشيعة أقوال وأفعال الأئمة المعصومين. وبهذا النّحو اتسعت دائرة مصادر التشريع لتشمل فضلاً عن أقوال القرآن، عشرات الآلاف من أقوال وأفعال الرّسول، ومئات الآلاف من أقوال وأفعال الصحابة والتابعين (بالنسبة للسنّة) والأئمة المعصومين (بالنسبة للشيعة).

وإن لم يساهم اتساع دائرة مصادر التشريع في توفير مخزون نصي لا ينضب لاستنباط تشريعات كونية تغطي نوازل كل الأزمنة والأمكنة، فسرعان ما اهتدى الفقهاء إلى آلية القياس. ومرّة أخرى لم يتم التوافق على معايير أو ضوابط معينة لهذا القياس، إذ ظل السؤال : نقيس ماذا على ماذا؟ وبأي حق؟

وكتمرين حر، لنأخذ أي سورة كيفما كانت، مثلا

ألهاكم التكاثر (الآية 1)

حتى زرتم المقابر (الآية 2 )

ما هي إمكانات تطبيق القياس هنا لاستنباط قانون ملزم؟

لنجرب : قياساً على الآية الأولى يمكنني أن أستنبط قانونا لتحديد النّسل بدعوى أنّ التكاثر يلهي الناس عن الحق ! وقياساً على الآية الثانية أو الآيتين معاً يمكنني أن أستنبط قانوناً عاما يمنع النّاس من زيارة المقابر !

وقد أشترط أن لا يكون سبب زيارة المقابر هو التباهي بكثرة الأحياء أو الأموات أو هما معاً ! وقد أقرر بمراعاة أسباب النّزول نفسها منع إجراء أي إحصاء للسكان، وقد أقرر أن يشمل الإحصاء الأحياء دون الأموات، وقد أقرر فقط أن لا يكون الإحصاء لغاية التفاخر بالكثرة ! وكل هذا بفضل القياس. لكن السؤال الأساس : بأي حق أحاول أن أستنبط من تلك الآية حكما شرعيا صالحاً لكل زمان ومكان؟

والحال أن منطوق القرآن نفسه يؤكد عدم وجود أي تشريع مطلق وصالح لكل زمان ومكان سواء بالقياس أو بدونه. إذ يقول :

لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً (المائدة، 48)

لقد أنتج القياس في الأخير أحكاماً ليست فقط منافية للعقل، وليست فقط مناقضة لأبسط قيم حقوق الإنسان، لكنها فوق ذلك تقوِّل القرآن ما لا يقوله أو خلاف ما يقول. وأمامنا أمثلة :

هناك أفعال جعل لها النص القرآني عقوبات أخروية دون أن يحدد لها أي عقوبة دنيوية، لكن غالبية الفقهاء استنبطوا -قياسا على العقاب الأخروي- ضرورة وجود عقاب دنيوي أيضاً. من قبيل الردة عن الإسلام مثلا.

هناك شعائر جعلها القرآن طوعية، وجعلها الفقهاء إلزامية، بل اتفقوا في العصر الحالي على أن تركها يستوجب العقوبة. مثل الصوم. تقول الآية :

يا أيّها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه (أي يستطيعون صيامه) فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون  (البقرة، 184).

لكن، تبعا للنزوع التشدّدي لفقهاء عصر الانحطاط فقد جُعل الشطر الأخير من الآية ناسخا لما سبقه. ونحن هنا لأول مرّة نرى ناسخا ومنسوخا داخل نفس الآية الواحدة ! لكن، حتى على افتراض صحة هذا الاستنتاج الجزافي فإن الشطر الأخير من الآية يستعمل فعل تطوع، ما يعني أننا أمام شعيرة تطوعية وليست إلزامية بأي حال من الأحوال. اللهم إذا كنا سنُقوِّل اللغة ما لا تقول !

هناك آيات قرآنية نُسخ حكمها بفعل انتفاء موضوعها ولا يمكن أن نستنبط منها سواء بالقياس أو بغير القياس أي قانون كوني وإلزامي. الهجرة مثلا. تقول الآية :

ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة…  (النساء، 100).

وتقول آية أخرى بنحو أكثر إلزامية :

والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا  (الأنفال، 72).

وإذا كان القول الأصح أن آيات التحريض على الهجرة قد نسخ حكمها مباشرة بعد فتح مكة، فيحق لنا التساؤل حول ما إذا كانت آيات الجهاد والقتال قد نُسخ حكمها بدورها بعد ظهور دولة القانون والمؤسسات والمواثيق الدولية؟

والواقع أن بعض فقهاء التكفير استنبط بالقياس أحكاماً مرعبة، من قبيل التعامل مع الآية “كتب عليكم القتال” قياساً على الآية “كتب عليكم الصيام” ! كما فعل صاحب الفريضة الغائبة، عبد السلام فرج.

غير أننا نصطدم بملاحظة أخرى : مقابل الآيات القرآنية التي تتضمن التحريض على القتال والجهاد في سياقات محددة ثمة عبارة في القرآن تمثل الصيغة الأكثر وضوحاً للتعبير عن أصالة حرية الاعتقاد الديني : لا إكراه في الدين.

المفارقة ليست هنا، لكنها تقع في مستوى الاشتغال الفقهي. ففي الوقت الذي استنبط فيه الفقهاء عشرات القوانين الفقهية من آيات الحرب والجهاد والقتال فإنهم لم يستنبطوا من آية لا إكراه في الدين أي  قانون يُذكر. بل خلاف ذلك، استنبطوا فقط ما سمي بأحكام أهل الذمة. إنهم بذلك النحو -وبلغة العصر- قد أفرغوا الحكم من مضمونه، وأضعفوا أداة النفي في العبارة القرآنية لا إكراه في الدين.


عبد السلام فرج: مستخدم عنيف لأداة القياس الفقهي