وينبغي الاشارة مليا الى ان افكار الطهطاوي في التقدم من جوانبه المختلفة ليست حصيلة نظر عقلي وقراءة عميقة في التراث العربي والكتب الفرنسية وحسب بل هي في المقام الأول ثمرة معايشة للحياة الأوربية في باريس من عام 1826م-1831م وفهم لجوانبها المختلفة وللأسس التي تقوم عليها وسنناقش تواجد فكر الطهطاوي مع عدة مجالات.
بقلم: ياسر جاسم قاسم
كانت حياته قبل البعثة في فترة حافلة بالتحولات السياسية في مصر فقد ولد الطهطاوي في العام 1801م الذي رحلت فيه الحملة الفرنسية عن مصر وحضر فيه محمد علي اليها وتتابعت الاحداث فأصبح محمد علي حاكما عليها.
وقد ذكر الطهطاوي اهتمامه اثناء بعثته الى فرنسا بالكتب السياسية حيث يقول:
وقرات في الحقوق الطبيعية مع معلمها كتاب برلماكي وترجمته وفهمته فهما جيدا وهذا الفن عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين يجعله الافرنج اساسا لاحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية وقرات ايضا مع مسيو شواليه جزئين من كتاب يسمى روح الشرائع مؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له مونتسكيو وهو اشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية ومبني على التحسين والتقبيح العقليين ويلقب عندهم بابن خلدون الافرنجي كما ان ابن خلدون يقال له عندهم منتسكيو الشرق اي مونتسكيو الاسلام.
وقرات ايضا في هذا المعنى كتابا يسمى عقد التانس والاجتماع الانساني مؤلفه يقال له روسو وهو عظيم في معناه وقرات ايضا في كازيطات (كتب ومجلات) العلوم اليومية والشهرية التي تذكر كل يوم ما يصل خبره من الاخبار الداخلية والخارجية المسماة البولتيقية (السياسية) وكنت مولعا بها غاية التولع.
حيث يوضح النص السابق معرفة الطهطاوي باهم كتب فلسفة السياسة التي كونت الفكر السياسي حتى ذلك الوقت ادرك الطهطاوي مدى اختلاف الفكر السياسي الحديث عن نظرية الحكم كما كانت مطبقة في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت واستخدم الطهطاوي عبارة ((التحسين والتقبيح العقليين)) وصفا لتحكيم العقل واعماله وتطبيق النظريات التي يصل اليها الفكر في المجال السياسي ايضا دون الانطلاق من الكتب الدينية وعرف الطهطاوي السياسة باصطلاحها الاوربي البوليتيقيا وتتناول البوليتيقيا عند الطهطاوي احوال الداخلية والخارجية ((من جهة ادارتها وسياستها وما فيها من التولية والعزل ونحو ذلك))وقسم الطهطاوي البوليتيقيا التقسيم المتعارف عليه في اوربا الى بوليتيقيا خارجية وتتناول ما كان بين الدول والملل وبوليتيقيا داخلية ووتناول ما كان في دولة واحدة مما يتعلق بانتظامها وتدبيرها ))
واشار الطهطاوي الى مسالة مهمة في الامر السياسي الا وهي ان الفرنسيين فرضوا تعديلا هاما في لقب رئيس الدولة الفرنسية حيث كان الملوك السابقون تخذون لانفسهم في فرنسا لقب ((ملك فرنسا بفضل الله تعالى)) وكان ملكهم لفرنسا قد اتيح لهم على سبيل الحق او التفويض الالهي ولكن احداث سنة 1830م ارغمت الملك على ان يعدل هذا اللقب الى ملك الفرنسيين وان يعتبر هذا اللقب صادرا من الشعب فالشعب مصدر السلطات والحاكم يحكم بتفويض من الشعب
وهذه المسالة شبيهة جدا لما حصل لدى ملوك المسلمين فيما مضى مما يعلمنا ان الحاكم الديني واحد في سماته بجميع الاديان مع اختلاف الشخصيات .
وتناول الطهطاوي في كتبه المتتالية تفاصيل اشكال مختلفة من ممارسة الحرية واهم هذه الاشكال حرية الدين وحرية الراي والحرية السياسية وحرية التملك .
اما الحرية الدينية فقد كانت موضوع المادة الخامسة من الميثاق الدستوري الفرنسي ونص هذه المادة في ترجمة الطهطاوي:
كل انسان موجود في بلاد الفرنسيين يتبع دينه كما يحب لا يشاركه احد في ذلك بل يعان على ذلك ويمنع من يتعرض له في عبادته.
كما تناول الطهطاوي حريات اخرى ذكرها في اطار الحقوق المدنية او الحقوق الاهلية منها حرية التحرك والتنقل وفي هذا يقول الطهطاوي بان المواطن حر يباح له ان ينتقل من دار الى دار ومن جهة الى جهة بدون مضايقة مضايق ولا اكراه مكره )) والى جانب هذا فلا يجوز ان ينفى مواطن الا بحكم قانوني فلكل انسان الحق المطلق في اختيار محل اقامته دون تعسف من السلطة الحاكمة.
ثانيا في الفكر الاقتصادي:
شغلت القضية الاقتصادية جانبا هاما من فكر الطهطاوي في كتابه مناهج الالباب على وجه الخصوص وتناول فيه عدة جوانب من النظرية الاقتصادية والتاريخ الاقتصادي واهتم بصفة خاصة بقضية العمل وراس المال وبقضية العلاقة بين الانتاج والخدمات وبقضية دور الدولة بالحياة الاقتصادية .
كان لقاء الطهطاوي مع المجتمعات الاوربية اثناء اقامته في باريس اول ادراك منه لضرورة التغير المجتمعي في العالم الاسلامي
ويعتبر الطهطاوي اول مؤلف عربي حديث يعرف للعمل حقه في حينه في الحياة الاقتصادية وينظر اليه باعتباره المقوم الاول للانتاج والازدهار وتفاوت الدول انما يرجع في راي الطهطاوي الى العمل والانتاج وفي هذا يقول:
ان الامة المتقدمة في ممارسة الاعمال والحركات الكدية ذات الكمالات في العملية المستكملة للادوات الكاملة والالات الفاضلة والحركة الدائمة قد ارتفعت الى اعلى في درجات السعادة والغنى بحركات اعمالها بخلاف غيرها من الامم ذات الاراضي الخصبة الواسعه الفاترة الحركة فان اهاليها لم يخرجوا من دائرة الفاقة والاحتياج فاذا قابلت بين اغلب اقاليم اوربا وافريقيا ظهر لك حقيقة ذلك.
ثالثا: الفكر الاجتماعي:
كان لقاء الطهطاوي مع المجتمعات الاوربية اثناء اقامته في باريس وملاحظته للفروق بينها وبين مجتمعات الشرق الاسلامي في عصره اول ادراك منه لضرورة التغير المجتمعي في العالم الاسلامي وقد تناول الطهطاوي العديد من القضايا الاجتماعية ومنها قضية المراة
وذكر اطهطاوي ان وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا ياتي من كشفهن او سترهن بل منشا ذلك التربية الجيدة والخسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين فالعفة في راي الطهطاوي نتيجة التربية اما خروج المراة الى الحياة الاجتماعية فيعد قضية اخرى وقد لاحظ الطهطاوي:
ان العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات الى الطبقة الوسطى من الناس دون نساء الاعيان والرعاع فنساء هاتين المرتبتين يقع عندهم الشبهه كثيرا ويتهمون في الغالب.
كما اكد الطهطاوي ان الرقص والموسيقى والغناء يؤديانالى وظيفة الامتاع الفني في المجتمعات الاوربية ولا يعدان فيها من الملذات المبتذلة او الممارسات غير المقبولة.
وتناول الطهطاوي ايضا قضية اهل الذمة في المجتمع الاسلامي حيث يقوم رايه في هذا المجال على اساسين هما حرية العقيدة وضرورة التعامل بين كل ابناء الوطن في اطار المساواة وسيادة القانون.
مواضيع قد تهمك
رابعا :الفكر التربوي:
حيث تعد التربية في رايه ضرورة للانسان لا يستطيع ان يستغني عنها فالانسان تميز عن سائر المخلوقات بالعقل وهو وسيلة حماية الانسان نفسه على عكس الحيوانات التي تمكنها قوتها الجسدية من ان تحمي نفسها وبهذا تعد التربية طريق التقدم فتربية الافراد على نحو اجتماعي سليم تؤدي الى رقي شان الامة وفيها يقول:
حسن تربية الهيئة مجتمعة يعني الامة بتمامها فالامة التي حسنت تربية ابنائها واستعدوا لنفع اوطانهم هي التي تعد امة سعيدة وملة حميدة
وقد استشهد الطهطاوي لبيان ذلك بان الحضارة اليونانية انما ارتقت في سابق عهدها لاهتمام اليونان انذاك بالتربية بصفة عامة
وفي هذا يقول:
ان السبب الاعظم في كثرة فحول الرجال وكبراء الابطال في بلاد اليونان في ايام جاهليتهم انما هو كان بعد احسانهم تربية الاطفال.
وهكذا كان الطهطاوي رائد الفكر العربي الحديث في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والعلمية وقد حاولنا تتبع اهم الافكار لدى مفكر النهضة الكبير فان الطهطاوي هو الذي فتح الباب واسعا لفكر وقاد ظل منتصرا على مدى سنين عديدة.