الديمقراطية حق اجتماعي للمجتمعات التي تعرف التعامل معها وتدرك قوانينها. ولكن عانت الديمقراطية الامرين في هذه المجتمعات كما عانت التكنلوجيا والصحافة والتعليم وكافة الانظمة الحديثة المستوردة.

بقلم: محمد عزالدين الصندوق


مع مطلع القرن العشرين دخلت بغداد أول سيارة قادمة من مدينة حلب وكان قائد تلك الرحلة الاسكتولندي ديفد فوربس (David Forbes)[1]. حدثا كهذا لم يكن سهلا في مجتمع كان في عزلة عن العالم .وقد قام بوصفه علي الوردي[2] عالم الاجتماع العراقي” في عام 1908  وردت الى بغداد من حلب أول سيارة، فخرج أهل بغداد للتفرج عليها، وصار بعضهم ينظر تحتها لكي يكتشفوا الحصان الكامن في بطنها على زعمهم إذ لم يكن من المعقول أن تسير عربة من غير حصان يجرها”. لقد عانت هذه التكنلوجيا الكثير قبل ان تستوطن بعض الشيء في المجتمع الغريب الذي  وجدت نفسها فيه. السيارة تكنولوجيا متقدمة وتطورت في مجتمعات متطوره معها , أي ان التطور الاجتماعي كان مترافقا مع التطور التكنولوجي. لذا كانت المستلزمات التي تحتاجها التكنولوجيا متوفره مع مراحل التطور .كما ان المجتمع كان مُأهلاً لتقبل تاثيراتها وسن قوانيناً خاصه للتعامل معها ولكل مرحله من مراحل التطور. 

لقد كان وجود السيارة في المجتمع العراقي هو اختصار مراحل تطورية تكولوجية واجتماعية  طويلة على المقياس الزمني. لذا كان هناك تناقض حاد ما بين ما هو متوفر اجتماعيا وماديا ومتطلبات السيارة. وهذا هو حال كافة المجتمعات العربية والاسلامية وليس العراق الذي قدمناه نموذجاً. وجود السيارة في مجتمع معين يعني توفر طرق بمواصفات خاصة وقوانين مرور تنظم كافة الامور الخاصه بها ومؤسسات توفر خدمات الصيانه وهذه الامور كلها تعني وجود نمط هيكلي متطور اجتماعيا وتقنيا. لقد تم توفير بعض المتطلبات المادية مثل طرق المواصلات ومؤسسات الادامة ومحطات الوقود خلال القرن الماضي في الدول الحاضنة. ولكن وكما تشير الاحصائيات العالمية لحوادث المرور بان هذه المجتمعات هي الان من ضمن المجتمعات ذات النسب الخطرة في حوادث المرور عالميا[3]. دخلت السيارة هذه المجتمعات نهايه القرن التاسع عشر ولحد الان تعاني هذه المجتمعات من مشاكل التاقلم الاجتماعي مع هذه التكنولوجيا .

الان تعاني هذه المجتمعات من مشاكل التاقلم الاجتماعي مع هذه التكنولوجيا

لاشك في ان قيادة السيارة حق مشروع (عدى بعض المجتمعات التي تحرم النساء من هذا الحق) لاي شخص ولكن لابد من ان يكون السائق مؤهلا للتعامل مع هذه المخلوق التكنولوجي المتطور وإلا فان حق السياقة الاعتباطي سيقود الى كوارث اجتماعية بسبب عدم التاهيل اللازم. الحق هنا مشروط بامتلاك المهارة والمعرفة.

ليست السيارة هي وحدها من دخلت هذه المجتمعات مطلع القرن العشرين بل الكثير الكثير من الابداعات التكنولوجية الغريبة عنها. وليست التكنلوجيا وحدها بل النظم الادارية والتعليمية والعسكرية والسياسية…الخ كانت هذه المجتمعات بحاجة لها. وحال هذه النظم جميعها ليس بافضل من حال السيارة ونظام المرور. كل هذه النظم تطورت خلال قرون وبعيدة كل البعد عن هذه المجتمعات التي استوردتها. لذا فان التعامل الاجتماعي معها كان وما زال بكفاءة  واطئة جدا ان لم تكن معدومة احيانا. التقبل والتعامل الاجتماعي يمثل خلالا كبيرا يواجه هذه المجتمعات في علاقتها بكل ما هو حديث.

 النظام الديمقراطي هو الاخر تم استيراده. الديمقراطية نظام سياسي متطور صاحب تطوره تطور اجتماعي وثقافي  حاله حال التطور التكنولوجي. تطورت الديمقراطية المعاصرة خلال القرون الثلاثة الاخيرة تقريبا وبدء استيرادها من قبل المجتمعات العربية والاسلامية بعد سقوط الدولة العثمانية  حالها حال أية سلعة متطورة تم استيرادها. الانظمة الديمقراطية مختلفة ومتنوعه ولكنها من الناحية النظرية تعتمد جميعها ثلاثة اساس:[4]

  1. التحكم التصاعدي أي إستقرار السيادة في الحدود الدنيا من السلطة
  2. المساواة السياسية
  3. المعايير الاجتماعية التي تكون مقبولة ضمن الفقرتين السابقتين.

لا تعمل الديمقراطية الا من خلال احزاب سياسية ذات مواصفات خاصة (كما ان سائق السيارة لابد له من مواصفات خاصة ) وضمن نمط حكومي يبعد الاحزاب من التسلط على الثروة القومية.  لقد ولدت الديمقراطية في مجتمعاتها تدريجيا وبمصاحبة تطور الفكر السياسي والاقتصادي. لذا تعمل المنظومات السياسية والاقتصادية والمؤسسات الاجتماعية بتناغم ومن دون اشكاليات خطرة.

مواخرا تم استيراد النظام الديمقراطي في  بعض المجتمعات العربية في الشرق الاوسط بعد 2003. ودخلت الديمقراطية هذه المجتمعات كما دخلت السيارة  نهاية القرن التاسع عشر. وكما ان سياقة السيارة حق طبيعي لمن يملك مهارة القيادة ويملك معرفة بقوانين المرور. فان الديمقراطية حق اجتماعي للمجتمعات التي تعرف التعامل معها وتدرك قوانينها. ولكن عانت الديمقراطية الامرين في هذه المجتمعات كما عانت التكنلوجيا والصحافة والتعليم وكافة الانظمة الحديثة المستوردة. وكما تفتق الفكر المحلي عن تحويرات بسيطة اوتدمير كامل لبعض الاجهزة التكنولوجيه او الانظمة الادارية المستوردة فان الديمقراطية هي الاخرى خضعت لتحويرات محليه هنا وهناك بغرض تفصيلها على مقاسات اجتماعيه معينة.

كل هذه النظم تطورت خلال قرون وبعيدة كل البعد عن هذه المجتمعات التي استوردتها

أن الجهل الاجتماعي والتخلف الحضاري يقفان عائقا خطرا امام التعامل مع هذه المنظومة الحديثة والاحزاب ذات التوجه الايديولوجي البعيد كل البعد عن ادراك روح العصر وافاقهُ الانسانية لا يمكنها اطلاقا التعامل بسلاسة مع هذا النظام الخطر. لقد قادت الديمقراطية في اوربا الى صعود حزب مؤدلج كان سببا في حرب كارثية هي الحرب العالمية الثانية. الاحزاب التي تتعامل مع الفكر الديمقراطي تكون بعيدة عن الادلجة الشموليه والدولة التي يُسيرها نظام ديمقراطي تكون بعيدة عن الثروة القومية.

لقد سيطر الفكر الديني على المجتمعات العربية والاسلامية مدة عشر قرون تقريبا وقادها الى نكسات وتراجعات خطرة وما يزال هذا النمط الفكري يقيد حركة الفكر والسلوك الاجتماعي.  لذا فان أي تسيس للدين من خلال احزاب دينية من شأنه ان يسيطر على أي برلمان ديمقراطي الاسلوب ويحتكر الموارد القومية .  ان معظم هذه التشكيلات السياسية الدينية تتميز ب:

  1. عدم القدرة على تقبل والتعامل  مع المنظومات المعاصرة ذات التاثير الاجتماعي مثل حقوق الانسان  والحرية الفردية  وحرية المرأة ….وان تقبلتها فعلى مضض.
  2. عدم القدرة على التعامل مع العلم والفكر العلمي اطلاقاً…
  3. تُفهم الحداثة على انها ليست اكثر من استخدامات تكنولوجية…
  4. المجتمع الانساني ليس اكثر من رعية ويجب ان تكون مطيعة للتفسير المعتمد للدين. وهنا نجد ان التفسير المعتمد يستمد قدسيته من الدين ذاته ويكون اكثر قدسيةً عند عامة الافراد.
  5. أي اشكال مهما كان معقدا يُحل من خلال البحث عن شبيه تاريخي مقارب. فالتاريخ (الغير دقيق اساسا) هو مسطرة القياس. لان الزمن توقف قرابة القرن العاشر.
  6. اعتماد اسلوب تغييب الوعي الاجتماعي من خلال ممارسات تكرس الفكر المعتمد وليس الدين.
  7. نزعة السيطرة على المؤسسات الاجتماعية

أن فكرا بمثل هذه السمات هو ابعد ما يكون عن المعاصرة وعن بُناها المختلفة . الديمقراطية واحدة من هذه البُنى. ولكن الوصول للسلطة الحديثة يحتاج الى وسيلة لذا يتم التعامل مع الديمقراطية وحسب النقطة الثالثة اعلاه بانها ليست اكثر من أداة للوصول. وهنا تكون الكارثة . الديمقراطية ليست وسيلة لاستلام سلطة قدر كونها اسلوبا سليما لتداول السلطة وتوجيه بناء المجتمع بصورة مستمرة وباسلوب سلس خلال التغيرات الزمنية الحاصلة.  بهذا الاسلوب يكون حق استلام السلطة مشروعا ولكن لمن لا يملك دراية باستخدام هذه السلطة. انه السماح لسائق غير كفوء بقيادة مركبة لا يعرف كيف يتعامل معها.


[1] Progress, The Journey through Arabia, PP 297. July 1909.

http://paperspast.natlib.govt.nz/cgibin/paperspast?a=d&d=P19090701.2.9.3&l=mi&e=——-10–1—-0-all

[2] علي الوردي , لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث, الجزء الثالث , صفحة 240.

[3] http://www.worldlifeexpectancy.com/cause-of-death/road-traffic-accidents/by-country/

[4] Kimber, Richard. “On Democracy”. Scandinavian Political Studies 12 (3): 201. (1989).

سيارة أرجيل (1904) في العراق: رمز متحرك للتنمية الاجتماعية الممتدة

شارع الرشيد في بغداد: صورة من تلك الحقبة