لقد عرف الغرب النهضة في الفترة التي تُعرف بعصر النهضة (Renaissance) وهي الفترة الواقعة مابين القرنين الرابع عشر و السادس عشر. و استمرت مراحل التطور متلاحقة بصورة طبيعية بعد ذلك. أما الفكر العربي و الاسلامي فلم يسبق له و ان تعامل مع مصطلح النهضة بمعناه الحالي طوال تاريخه. عدا بعض المحاولات البسيطة نهاية القرن التاسع عشر و تلك التي جاءت بعد الحرب العالمية الاولى وهذه الحالة لها مدلولاتها.

بقلم: محمد الصندوق


إلا ان التاريخ العربي و الاسلامي عَرف النهضة قبل الغرب (دون ان يُسميها) و ذلك خلال القرون الثلاثة الاولى بعد ظهور الاسلام أي ما بين القرن السابع و العاشر الميلاديين [1]. و هناك الكثير الكثير من الدراسات التي تناولت تلك الفترة. و لكن ما يميز هذه النهضة انها كانت طفرة تاريخية طارئة لم يُكتب لها ان تستمر. دخلت بعدها هذه المجتمعات مراحل من التراجع الفكري و الحضاري و لقرون عدة حتى مطلع القرن العشرين. عرفت مصر نهضة حضارية محدودة خلال عصر الظلام هذا بعد حملة نابليون (1798-1801) و رغم ان الحملة كانت قرابة الاربع سنوات الا انها كانت سببا اساسيا و مهما في بناء الدولة المصرية الحديثة فيما بعد.

ما تزال المجتمعات العربية و الاسلامية تهتم و تفخر بنهضتها تلك دون ان تتسائل عن سبب اختفائها و عدم تكرارها.  تنتشر في الغرب الان الكثير من المؤسسات ذات الواجهات الاكاديمية للعلوم العربية و الاسلامية القديمة و بتمويل من دول عربية و اسلامية. قد يكون هدفها دراسة تلك الانجازات العلمية ذات القيمة التاريخية و لكن لا يوجد مركز واحد متخصص لدراسة سبب انهيار ذلك النشاط العلمي. ان السبب الكامن وراء الانهيار العلمي هو ذاته السبب الكامن وراء التخلف الاجتماعي و التراجع الحضاري. دراسة الظاهرة و معرفة اسبابها تقود الى الحل.

خلال فترة النوم الحضاري و التي استغرقت قرونا عدة كان الفكر الانساني وقادا و في صراع دائم نحو التحديث و البناء الحضاري بكافة جوانبه المادية و الانسانية. لقد قاد النوم الحضاري الى توقف الابداع الفكري و توقف التطور الاجتماعي بمختلف جوانبه و ليس هذا فقط بل الى ترسخ مفاهيم و عادات و تقاليد و انماط فكرية و سلوكية في هذه المجتمعات  حتى اصبحت كلمة المحافظه (conservation) من الكلمات المقدسة اجتماعيا و الخارج عليها مرتدا. . خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن تكون فكر اجتماعي مغلق و عدات اجتماعية ابعد ما تكون عن المعاصرة. لذا كان كل شيء محفوظا قبل الحرب العالمية الاولى. و عندما دخل جيش الاحتلال البريطاني بغداد مطلع القرن العشرين وجد عجبا في مدينة عرفها من خلال كتب التاريخ كمدينة الف ليلة و ليلة. لم تكن بغداد يوم إحتلالها سوى خرائب و المجتمع في حالة يرثى لها من التخلف و الجهل [2] و هذا بلا شك بفضل المحافظة و الانغلاق.

قاد النوم الحضاري الى توقف الابداع الفكري

ظهرت محاولات فكرية نخبوية طامحة لاحداث بعض التململ الحضاري البسيط نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين تناولها بعض المؤرخين على انها النهضة الحديثة مثل خطابات جمال الدين الافغاني و محمد عبدة و هبة الدين الشهرستاني…! ما يميز تلك المحاولات انها كانت محاولات محدودة من رجال دين و الذين كانوا ولا زالوا يمثلون الطبقة المتنفذة بالفكر الاجتماعي السائد.  لذا جاءت الطروحات باسلوب وعظي  ولم يسلم هؤلاء من الغضب و الرفض من قبل المؤسسات الدينية و التحريض عليهم. بعد سقوط الدولة العثمانية و ظهور الدول الحديثة من مستعمراتها ظهرت محاولات سياسية متفرقة هنا وهناك حاولت التحديث . واجهت هذه المحاولات اعاقات محلية رافضة للتحديث [3] و صعوبات كبيرة و لكنها كانت محاولات ضرورية. و اهم ما يميز تلك المحاولات انها كانت :

  • تهتم و تركز على بناء المدينة  اكثر مما يجب ان يكون للقرية و كما سنرى لاحقا .
  • تم الاهتمام بتوفير كوادر ادارة الدولة و الخدمات للمجتمع دون الاهتمام ببناء الثقافة الاجتماعية المعاصرة التي لم تكن وما تزال مفقودة.
  • تم الاهتمام ببناء التعليم عموديا (ابتدائي و صعودا الى الدكتوراة) دون الاهتمام بنوعية التثقيف الابتدائي و الاعداد الاجتماعي الحديث للفرد و ليس مجرد الاعداد المهني.
  • يتم احيانا الاهتمام بحملات محو الامية الابجدية دون الاهتمام بمحو الامية الثقافية. الثقافة التي تؤهل الفرد للمعيشة في العصر الحديث.
  • ضعف او انعدام التثقيف الاجتماعي.

و كما يبدو ان تلك المحاولات لا تعدوا عن كونها محاولات حماسية استعجلت البناء الفوقي منبهرة بالغرب و انجازاته لذا بنت و هدمت و اضاعت فرص اكثر مما بنت  و لم تكن تلك المحاولات اكثر من تململ حضاري في محاولة للنهوض غير المدروس فقامت باستجلاب منظومات اجتماعية وسياسية و عسكرية …متطورة من مجتمعات متطورة و هكذا كان البناء سطحيا و لم يصمد  و اخذت نماذج التحديث بالتهاوي و ليس هذا فقط بل استمرت عملية البناء و الهدم و ما تزال العملية مستمرة و ما تزال هذه المجتمعات حيرى في البحث عن طريق لها بعد ان خرجت من سجن الزمن. و هكذا فان عملية البناء و الهدم المستمرة ستبقى لحين الوصول الى مرحلة الانهاك. هذه المجتمعات تدفع ضريبة الانغلاق الفكري الذي خلفه الاجداد منذ عشرة قرون تقريبا و ما تزال حتى اليوم لا تستطيع تشخيص علتها. و تخاف الاقرار بالانغلاق الفكري الذي قادها وما زال الى هذه النتيجة الماساوية.

لقد مر القرن العشرين و تلك المجتمعات تتخبط في بنائها و هدمها دون ان تكون هناك خطوة اندفاع نحو تحديث اجتماعي فعلي. و كما كان للساسة طموحاتهم و محاولاتهم الساذجة  كان هناك للمفكرين العرب و المسلمين مساهماتهم المتخصصه المدروسة . لم يقف هؤلاء مكتوفي الايدي في طرح برامجهم التحديثية اصلاحية كانت ام نهضوية. و لا اريد ان اعرج الان على ذكر تلك المحاولات و مفكريها الكبار و لكن لم تكن تلك الابداعات الفكرية إلا خطابات فكرية او فلسفية  و كانت اقرب ما تكون الى طروحات نظرية بينها و بين الواقع بون شاسع. و هي بذلك لم تتمكن من ان تقدم شيئا على ارض الواقع.

لم تكن تلك المحاولات اكثر من تململ حضاري

على اية حال هل من الممكن التسائل عن ماذا تريد هذه المجتمعات نهضة ام اصلاح ؟ النهضة بحاجة الى روافد فكرية معاصرة لزمانها لتستند عليها فهل لهذه المجتمعات روافد فكرية معاصرة يمكن الاستناد عليها في نهضتها؟ بالتاكيد لاتملك هذه المجتمعات أي مقومات فكرية معاصرة و هذا واضح من التشتت الفكري الذي تعيشه.  هنا نجد انفسنا امام خيار الاصلاح. و لكن أي اصلاح هذا ؟ هناك من ينادي بالاصلاح الديني. الدين الاسلامي له مؤسساته المستقلة و التي انفصلت عن السلطة تقريبا منذ العصر الاموي. و لكن كمؤسسات بقت نافذة و مسيطرة على الفكر الاجتماعي حتى يومنا هذا . الدين الاسلامي كأي دين لا يمكن ادخال اصلاحات عليه إلا من خلال المؤسسة الدينة. و المؤسسة الدينية الاسلامية ليست موحدة ولا يمكن توجيها لتغير قناعاتها الفكرية لاجل الاصلاح.

نحن امام مشكلة فكر اجتماعي ترسخ و تغلغل خلال قرون. لقد اثبت الفكر الاجتماعي هذا فشله في المواجهة مع الحداثة .المجتمع العالمي المعاصر يفترض مواصفات معينة للمجتمع المعاصر و الفرد المعاصر لمواجهة التحديات  و هذا ما تسعى له الدول المعاصرة في تكوين اجيالها…..من الممكن بناء مدينة معاصرة خلال عدة سنوات و خصوصا وان الثروة النفطية قد تُسهل هذه المهمة. و قد يستورد ابنائها احدث ما تبدعه التكنولوجيا العالمية وقد وقد وقد . بناء كهذا قد لا يحتاج سوى عدة عقود من الزمن . ولكن هل تستطيع كل هذه الاجراءات الشكلية بناء مجتمع معاصر مبدع و مدرك لمسؤولياته الاجتماعية ضمن منظومات مختلفة و متفاعلة يكون فيها الفرد حرا مبدعا و في الوقت ذاته مقيدا بقانون؟ هل تستطيع هذه المدة خلق مجتمع يتجاوز العُقد الاجتماعية التي تراكمت و ترسخت خلال قرون من دون حل؟ هل تستطيع هذه العقود البسيطة ان تُعيد للفكر الانساني المقيد مرونته الابداعية التي تم حجرها لقرون عدة؟ قد تساعد عملية بناء المدارس في محو الامية الابجديه و لكن كيف يتم التخلص من الامية الثقافيه و كم تحتاج هذه العملية من زمن؟ الثقافة الاجتماعية بنت مكانها و زمانها . لقد اظهر القرن الماضي انماط من السلوكيات حتى لدى الليبرالين و الماركسين من تلك المجتمعات  تتعامل باطر اشبه ما تكون بنمط الفكر الديني الذي تربى عليه المجتمع لقرون عدة. و هذا ما انعكس على القادة الاصلاحيين فلم يدر بخلد اتاترك او شاه ايران او قادة العرب خلال القرن العشرين ان ما يقومون به ليس اكثر من مكياج و طلاء للمعاصرة  ليخفي تحته تخلف اجتماعي عمقه عشرة قرون. لذا هُدم ما هُدم وما هو في طريقه للهدم ينتظر دوره ان لم يكن الان فغدا.

ماذا تريد هذه المجتمعات نهضة ام اصلاح ؟

يحاول الفكر الاسلامي السياسي المعاصر ان يدلي بدلوه كما فعلت التيارات السياسية الاخرى سابقا في ادعائها او محاولتها الاصلاح او النهضة. و لكن مما يجدر ذكره هو ان الفكر الاسلامي المعاصر ما هو إلا امتداد طبيعي للفكر الذي رفض النهضة الاولى و أجهز عليها منذ قرون عشر و قاد الفكر الاجتماعي خلال فترة التراجع الحضاري. أن فكرا كهذا ابعد من ان يدرك طبيعة العصر الحاضر و متطلباته لكي يخط برامج اصلاحية.  هذه الانماط الفكرية تمهد الطريق للسماء تاركة عبيد الله ليكونوا عبيدا لم يملك القوة على الارض. انهم لا يدركوا بان للمعيشة على الارض قوانينها التي لا يفهمها الا من ملك حرية الفكر و طريقها العلمي. و ما النكسات الاجتماعية و الهزائم العسكرية الا ناتج طبيعي لهذا النمط الفكري.

نحن امام مشكلة فريده . انها باختصار مشكلة مجتمعات كانت حبيسة فكر مغلق لعشرة قرون و وجدت نفسها امام زمن غير زمنها.  و هذه الحالة مختلفة تماما عن حالة المجتمعات البدائية .المجتمعات البدائية ليست حبيسة فكر مغلق لذا يمكن تحديثها و ادماجها ضمن المجتمع العالمي المعاصر بسهولة. قد يرى البعض أن مشكلة المجتمعات العربية والاسلامية بالنسبة للغرب تنحصر في كونها بؤر مصدرة للارهاب و لكن المشكلة اكبر من ذلك أنها تخص القدرة الانتاجية و استغلال الامكانيات و الموارد الطبيعية و البشرية و تطوير المستوى المعاشي و طريقة التعامل مع التكنولوجيا و العصر الحديث. هذه المجتمعات تواجه تحدي البحث عن الهوية بعد ان دخلت غابة الزمن المعاصر المعقد.  لقد شخص الكثير من المفكرين العرب مشكلة الانغلاق الفكري قبل بروز ظاهرة الارهاب العالمي. 

كما ان هناك فرق حضاري كبير بين المجتمعات العربيه –الاسلامية و الغرب فان هناك فرق حضاري كبير بين المدينة و الريف في تلك المجتمعات. و كما ان هناك هجرة باتجاه الغرب فان هناك هجرة باتجاه المدينة.  المدينة بحكم احتكاكها بالخارج (الغرب) فانها اكثر مرونة في تقبل التحديث من القرية التي تتميز بالانغلاق. و لكن تُشكل القرى و الاماكن الضعيفة اقتصاديا النسبة الكبرى في تلك المجتمعات. لقد بقت القرية العربية –الاسلامية بعيدة عن التحديث و انشغل الساسة ببناء المدن و الاماكن الفخمة. كما انشغلوا بانشاء الجامعات تاركين التعليم الابتدائي مقتصرا على معلومات علمية بسيطة و بعيدة عن تكوين جيل ذي تفكير منفتح. تبين احصائيات الامم المتحدة النمو السكاني [4] الكبير لدول الجنوب و التي يغلب فيها النمو السكاني لسكان الارياف (تشكل الدول الاسلامية و التي يقرب عددها من 47 دولة تجمعا كبيرا ضمن دول الجنوب) . و بذلك تزداد الهجرة من الريف الى المدينة و هذا ما قاد الى ترييف المدينة و لم يحدث العكس أي تمدين القرية. لقد تطور الريف في الغرب بصورة تدريجية  حتى اختفى الفرق الحضاري في المجتمع الواحد. ان خطاب التحديث قد يكون مقبولا الى حد ما في المدينة و لكنه ليس كذلك في الريف. و بازدياد الهجرة نحو المدينة قل تقبل التحديث في المدينة.

أمامنا صورة ماساوية قاتمة و تحد خطير يواجه هذه المجتمعات و ما تسببه من دمار لنفسها و للمجتمع الدولي . ان المشكلة اكبر من ان تُحل بطروحات فيلسوف او وصايا مفكر. المشكلة بحاجة الى دراسة كبيرة و تضافر جهود مؤسسات عالمية و محلية. أنها مشكلة فكرية اجتماعية اقتصادية. بمعنى اخر انها مشكلة معقدة.  قد يمكن القول باعادة تأهيل الافراد و لكن هل من الممكن إعادة تاهيل المجتمعات. ان هذا لا يعني تقليد الغرب . الغرب ليس نموذجا يُحتذى  ولكن المجتمعات الغربية خطت طريق تحديثها منذ قرون و بالتدرج الزمني المطلوب لتاخذ مميزاتها الشخصية الحالية  و اثبتت انها خلقت قوتها على الارض من خلال حرية الفكر الذي قاد و يقود الى الابداع و الى مجتمعات متماسكة و متزنة. و ما  حدث في الغرب ليس من الضروري ان يحدث في هذه المجتمعات الان. و لكن التجربة الغربية لابد من ان تُدرس و تستخلص منها التجارب المفيدة التي قادت الى عصر النهضة.


[1] M. I. Sanduk, Growth of science under the social influence in Arabic-Islamic and Western Civilisations, 700-1900 (Statistical Models) http://philsci-archive.pitt.edu/9012/ .

[2] M. I. Sanduk, الانغلاق الفكري وامكانية البناء الحضاري

[3] M. I. Sanduk, The Challenges and the initiatives towards the enhancement of US-Muslims collaborations, Conference on Initiatives in Education, Science and culture towards enhanced US-Muslims countries collaborations, Bibliotheca Alexandrina 16-18 June 2010.

[4] United Nations, 2004. World urbanization prospects: the 2003 revised population database. UN, New York, NY, USA. http://esa.un.org/unup/ .

ترييف المدينة بدلا من تمدين القرية

لا تستطيع الثروة النفطية وحدها بناء مجتمع معاصر مبدع