لكن يثور هنا السؤال: كيف يتحول الوحي ويتبدل؟ وهل يمس ذلك قدسية كلمة الله الثابتة؟ وهذا ما دعا بعد ذلك إلى نشوء مبحث هام وكبير من مباحث علوم القرآن، هو «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وهو الظاهرة التي لحظها القرشيون حتى قالوا: «ألا ترون إلى محمد، يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولًا يرجع عنه غدًا؟»

بقلم: سيد القمني


وهي ذات المقالة التي قالها اليهود اليثاربة بعد الهجرة، عندما تحول النبي ﷺ بالمسلمين في الصلاة — عن بيت المقدس — إلى كعبة مكة.١٠ كان ذلك التحول والتبدل مدعاة لرد الآيات الكريمة:

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (النحل: ١٠١).

والمعنى أن هناك آيات تم استبدالها بأخرى، مع إشارة واضحة إلى احتساب المشركين لذلك التبديل افتراء من النبي ﷺ على الله جل وعلا، والله منه بريء. إلا أن الآيات أوضحت بلا إبهام أن من يرفضون منطق الاستبدال والتحول «أكثرهم لا يعلمون»، وهو ما دعمته الآيات بقولها: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (الرعد: ٣٩). وهو ما يشير ليس فقط إلى الاستبدال، بل إلى محو آيات بعينها، ثم بقولها:

مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦).

وقد جاء عن ابن عباس من تفسير الآية يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ:

«أن الله يبدل ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وما يبدل وما يثبت إلا في كتاب.»

وعن قتادة عن عكرمة قال:

«إن الله ينسخ الآية بالآية فترفع وعنده أم الكتاب، أي أصل الكتاب.»

وعن قتادة أيضًا في شرح الآية مِنْهُ آيَاتٌ محْكَمَاتٌ (آل عمران: ٧)، قال: «المحكمات هي الآيات الناسخة التي يعمل بها.»١١ مما يشير إلى غير المحكمات التي لا يعمل بها، على ذمة قتادة.

وإزاء القول بأن الآيات، المنسوخ منها والناسخ، المعلوم لدينا أو المجهول — لنسخه أو محوه — إنما في كتاب أزلي محفوظ هو أم الكتاب، يقول د. نصر أبو زيد:

«النسخ هو إبطال الحكم وإلغائه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدال على الحكم ورفعه من التلاوة، أو ظل النص موجودًا دالًّا على الحكم المنسوخ، لكن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين يتحاشى مناقشتهما،

الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ.

والإشكالية الثانية … هي إشكالية جمع القرآن … ومشكلة الجمع ما يورده علماء القرآن من أمثلة قد توهم أن بعض أجزاء النص قد نُسيت من الذاكرة الإنسانية … ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص سواء بقي حكمها أم نسخ أيضًا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ …

فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلو، ينفي هذه الأبدية المفترضة الموهومة … فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين، ازدادت حدة المشكلة … والذي لا شك فيه أيضًا، أن فهم قضية النسخ عن القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل يؤدي أيضًا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.»١٢

لكن رغم أهمية هذه الرؤية وعلميتها، التي تحرص على الالتزام بمنهج الدراسة العلمية وشروطه، كما تحرص في ذات الوقت على النص ومفهومه، فقد كان واضحًا أنها سقطت في شراك المنظومات القديمة وقوالبها الجاهزة، فتشابكت معها. رغم ما أبداه الأستاذ الدكتور من حذر وتحذير من سيطرة مثل تلك المنظومات والقوالب على الباحث، في مقدمة كتابه المذكور، ورغم حرصه الشديد على التعامل مع النص القرآني كنص أدبي، ورغم إشارته إلى ارتباط هذا النص بواقع جزيرة العرب زمن تواتر ذلك النص وحيًا. إلا أن تلك الإشارة لم تفصح عمليًّا عن ذاتها بشكل واضح وجلى في موضوعه عن النسخ.

لم يأخذ المجتهدون الأحداث والظروف بحساباتهم وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود

وإزاء تشابك تلك الرؤية مع القوالب القديمة، فإن الأستاذ الدكتور لم يمد الخيط إلى طرفه الأخير، أو بالأحرى إلى الحدود الممكنة وكانت متاحة، لولا أنه سلم مقدمًا بالتقسيم التقليدي لظاهرة النسخ في القرآن الكريم. أقصد اللوحة الثلاثية التي تقول: إن هناك أولًا «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، بمعنى أن هناك آيات في الكتاب الكريم قائمة بلفظها، وإن بطل العمل بحكمها، بموجب آيات أخرى جاءت بحكم جديد نسخ الآيات القديمة. وثانيًا «ما نُسخت تلاوته وبقي حكمه»، بمعنى أن هناك آيات كانت معروفة في حياة النبي ﷺ ويعمل بحكمها، لكن في ظروف بعينها تم نسخ تلاوتها أي لفظها أو نصها، بينما بقي حكمها معمولًا به بعد وفاة النبي ﷺ، وهي الحالة التي تجد نموذجها الأمثل في حكم الرجم على الزاني والزانية إذا ما أحصن، أي إذا كان متزوجًا.

أما الحالة الثالثة فهي «ما نُسخ حكمه وتلاوته معًا»، فلم يعد له وجود بين آيات القرآن الكريم، ولم يعد يعمل بحكمه أيضًا.

هذا بينما نجد — بنظرة مدققة — فيما جاء من أخبار، ما يفيد أن هناك أحداثًا وظروفًا جدت، فتفاعل معها الوحي، إضافة إلى أحداث جدت بعد الوحي، وذلك إبان عملية جمع القرآن، بحيث أدى هذا كله في النهاية إلى القرآن النهائي الموجود بين أيدينا الآن، المصحف العثماني نسبة إلى عثمان بن عفان، ولم يأخذ المجتهدون في التعامل مع ظاهرة النسخ تلك الأحداث والظروف بحساباتهم، رغم إشارتهم لها، وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود، مما انتهى بهم إلى اختراع اللوحة الثلاثية. ومن هنا سنحاول فهم واقع الحال مرة أخرى، مرتبطًا بمراحل تواتر الوحي، ومن خلال الإشارات والشذرات والشهادات التي قدمها علماؤنا القدامى، والتي تشير إلى ما حدث خلال ثلاثة وعشرين عامًا، استغرقها تواتر الوحي القرآني، وكانت كفيلة بالتعامل معه كنص تاريخي، إضافة لكونه نصًّا عقديًّا وأدبيًّا.


ولقد كان تواتر الوحي خلال تلك الفترة الزمنية، مفرقًا ومنجمًا، تواصلًا مستمرًا مع الواقع آنذاك، وتفاعلًا مع المستحدثات الظروفية، وهو ما كان معترض المشركين الأساس، والذي سجلته الآيات الكريمة في قولها:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان: ٣٢)،

وهي حجة تتسق مع الرؤية المثالية لمفهوم الألوهية ومفهوم النبوة، حيث يتسم فيها الله بالثبات المطلق، وبحيث تثبت كلماته دفعة واحدة، فلا تتبدل ولا تتغير، بحسبان كلام الله ثابتًا ثبات ذاته. وهي ذات الرؤية التي استندت إليها قراءة السالفين من علماء المسلمين في الكتاب الكريم، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يمكن — بالفعل — أن يدمر مفهوم النص ذاته، بحسب ما نبَّه إليه د. نصر أبو زيد.

هذا بينما، كانت سيولة القرآن الكريم، وتدفقه على مراحل حسب المناسبة والظروف، مطابقة مستمرة ودائمة بالمتغير الموضوعي، بحيث لم يُترك النبي وبين يديه نص أولى أزلي واحد، يواجه به الواقع الذي لا يتوقف عن التغاير، ومن هنا استكملت الآيات إيضاحها في قولها:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتَيلًا (الفرقان: ٣٢).

لقد تحولت النبوة عن نهج الإبهار بالإعجاز الساحر، فلم تأخذ بعصا سحرية تفعل الأعاجيب، ولا بتمتمات تحيي الموتى، وإنما أصحبت فرزًا صادقًا يتطابق مع واقعها الزمكاني، وهو ما جعل الوحي بالنسبة للنبي محمد ﷺ يختلف عن الوحي الإيهامي والإلهامي.

لقد تحول باليقين إلى الواقع ليتفاعل معه، يقرأ الواقع، ويجيب على أسئلته، ويساهم في حل إشكالياته، يرتبط بالأرض ومصالح ناسها ومطالبهم، بحسبان الناس وليس السماء هم هدفه الرئيسي؛ بحيث أصبح الناس المتغيرون بتغير أحداث الواقع عنصرًا أساسيًّا في مجيء الوحي مفرَّقًا وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء: ١٠٦).

وإعمالًا لما سبق، ولأن عمل د. نصر — بحساباتنا — عمل رائد لإعادة فتح البحث حول هذا الأمر، فقد رأينا دفع الموقف حول اللوحة الثلاثية، ليس تسليمًا بها ولا بمنهج الدكتور نصر في تعامله معها واعترافه بها، إنما لبيان الأسباب التي أدت إلى كل حالة من حالات تلك القسمة الثلاثية، أو بالأحرى، اختراعها اختراعًا.


١٠ علي حسن العريض: فتح المنان في تفسير القرآن، مطبعة الخانجي، القاهرة، د.ت، ص٨٥، ٨٦، انظر أيضًا: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية، القاهرة، د.ت، ج٢، ص٦١.
١١ ابن الجوزي (جمال الدين): نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٥م، ص١٣، ١٤.
١٢ د. نصر أبو زيد: المصدر السابق، ص١٣١، ١٤٨، ١٥٢.

الصورة الرئيسية: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيط بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ . المجلد السابع من مصحف مكون من سبعة مجلدات بتكليف من ركن الدين بيبرس ، لاحقًا السلطان بيبرس الثاني ، المكتبة البريطانية إضافة MS 22412.

اقرأ الجزء الأول من هذه المقالة هنا