تروي كتب التاريخ الإسلامية وكتب السِّيَر والأخبار أن النبي ﷺ في المراحل الأولى من دعوته في مكة، وبعد أن هاجر بعض أتباعه إلى الحبشة، ورأى تجنُّب قريش له، وأنه في نفر قليل من أصحابه، استشعر الوحشة فتمنى قائلًا: «ليته لا ينزل عليَّ شيء ينفرهم مني.»

بقلم: سيد القمني


كما يُروى أنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادات قريش، ومعه بعض أتباعه يُصَلُّون معه، ولما وصل إلى الآيات أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (النجم: ١٩-٢٠)، يُروى أنه استمر يقول: «تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» مما أدى إلى صدًى واسع النطاق، حيث أعلنت قريش رضاها عن محمد ﷺ وعما تلا من آيات، وقالت: «بلى؛ لقد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، لكن هذه تشفع لنا عنده، وإذا جعلت لها نصيبًا، فنحن معك.»

ويذكر الطبري أن:

«المؤمنين صدَّقوا نبيهم فيما جاءهم عن ربهم … فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به واتباعًا لأمره، وسجد من سجد من المشركين وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبقَ في المسجد مؤمن ولا كافر إلا وسجد.»١

وروى البخاري عن ابن عباس قوله: إن رجلًا واحدًا لم يسجد لكِبَر سنِّه ووهن عظمه، «إلا رجلًا رأيته يأخذ كفًّا من تراب فيسجد عليه.»٢ وقد سمَّى الواقدي هذا الرجل بالاسم في قوله:

«فسجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة، فإنه أخذ تُرَابًا من الأرض، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ.»٣

ومعلوم أن «الوليد» كان من أشد الناس على النبي ﷺ، كما كان من ذوي الثراء بين وجهاء مكة وأشرافها، ولا شك أن موقفه هنا بحاجة إلى بعض التأمل.

وتُتابع الروايات حكايتها، فتقول: إنه كان لتلك القصة المعروفة في التراث الإسلامي بحديث الغرانيق، صدًى واسع، حتى إنه وصل إلى مسامع المسلمين المهاجرين لدى نجاشي الحبشة، فقفلوا من مهجرهم راجعين بعد أن انتفى سبب اغترابهم. لكن هؤلاء التقوا في طريق عودتهم بركب من كنانة، أخبروهم أن النبي ﷺ ذكر شفعاء قريش بخير فتابعوه، لدرجة أنهم صلوا صلاته، ثم ارتد عنها فعادوا لمعاداته، فبعد أن قال:

«أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.»

عاد يقول: إن جبريل جاءه وعاتبه قائلًا:

«ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل، وقلت ما لم يقل.»

ثم تلا:

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (النجم: ١٩–٢٢).٤

وقد عقَّب القدامى والمحدثون على حديث الغرانيق لنفيه، واستهجانًا له، وللإيجاز يقول د. شعبان محمد إسماعيل من المحدثين: «وهذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل.»٥ ومن القدامى أبو جعفر النحاس الذي هاله أمرها، فقام يعلن أن «هذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم.»٦ وقدَّم محقق كتابه لذلك بحجة منطقية تمامًا، وهي

«أنه لو جوَّزنا ذلك، لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلًا للتشكيك في الدين.»٧

 ثم أردف بما جاء عند الواقدي وهو يقول:

«… حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي هذا، فقال له: ما جئتك به، وأنزل الله: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٤).»٨

والآية المشار إليها لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا جاءت في عَتْبِ الله تعالى على نبيه الكريم ﷺ، في الآيات:

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٣-٧٤)،

ثم نجد تبريرًا قرآنيًّا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان — لعنه الله — انتهز فرصة تمني النبي القربَ من قومه، فتدخل في الوحي إبَّان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرًا جديدًا ولا غريبًا؛ فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل المكرمين إذا تمنى أحدهم ذات الأمنية أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ (الحج: ٥٢).

ويعقب أبو جعفر النحاس الذي استفظع الأمر على تلك الآيات، فيؤكد أنه حتى لو كان حديث الغرانيق قد حدث، وأن الشيطان وجد الفرصة في التمني، فإن النبي لم ينطق بما ألقى الشيطان، أو كما قال:

«… فيكون التقدير على هذا: ألقى الشيطان في تلاوة النبي ﷺ إما شيطان من الجن، ومعروف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي ﷺ، فألقى هذا في تلاوة النبي ﷺ من غير أن ينطق به النبي ﷺ.»٩

ومن هنا يحتمل أن يكون مناط احتجاجه ما جاء في آيات أخرى تقول:

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: ٩٨–١٠٠).

هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدًا عن بحوث المغيبات الدينية ذاتها، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها.

الوحي الصادق الذي يشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واعٍ مريد.

لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم. وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددًا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشًا لم تكن تختلف مع المصطفى ﷺ حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم ذاته، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات:

وَلَئِن سَأَلْتَهُم منْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (العنكبوت: ٦١)، قُلْ مَن ربُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦-٨٧)،

وغير تلك الآيات بذات المعنى كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي ﷺ لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب العرب.

وهكذا كان معنى أن يلغي محمد ﷺ الشفعاء، هو إلغاء الحاجز الأخير بين القبائل وبعضها، وإسقاط الرمز القوي السيادي المتماهي مع السيد الأرستقراطي هذا ناهيك عن نظرتهم إلى النبي ﷺ بحسبانه يسعى إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل، لتنتقل له وحده الشفاعة، من حيث كونه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار. أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله، هو ما يتهدد مصالحهم التجارية جميعًا بالدمار.

وفي ظل ذلك الوضع يمكن قراءة حديث الغرانيق مرة أخرى، ففي تلك الظروف، ومع مهاجرة الأتباع للحبشة، ومع قسوة الواقع ومرارته، ومع الغربة وسط الأهل، ومع الظرف النفسي الذي — لا بد — تركته تلك الأوضاع في النبي ﷺ، تمنى، فتدخل الشيطان، فقال ما قال، فتبعته قريش وخاصة سادتها الذين تواجدوا تلك اللحظة بالحرم؛ لأنه هكذا لن يمس الأمر مصالحهم، فسجدوا بسجود النبي ﷺ، وصلوا معه صلاته. وهنا كانت الفتنة المقصودة بقول الآيات:

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً للَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مرَضٌ. وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (الحج: ٥٣).

والقلوب كانت آنذاك بمعنى العقول، أي الذين لا يفقهون ولا يدركون المرامي البعيدة لدعوة النبي ﷺ، تلك المرامي التي سبق أن أدركها العقلاء منهم رغم عدم إيمانهم، وأفادوهم بها، وشرحوها لهم، وهو ما لمسناه في قول عتبة بن ربيعة لهم بعد أن التقى النبي ﷺ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، ولا شك أن عتبة بن ربيعة، وهو أحد الأرستقراطيين الكبار، قد أدرك الأبعاد الكبرى للدعوة، والتي كانت تبغي توحيدهم جميعًا في دولة كبرى تناجز الروم والعجم، دون إضرار بمصالحهم التجارية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل.

بل وبعد انتصار الدعوة تم تمكين هذه المصالح وتقويتها ودعمها، فالنبي بعد فتح مكة لم يضمن للمكيين مكانتهم بين العرب فقط، بل ضمن لقريش ولزعامتها مركزهما في الإسلام. والناظر لفتح مكة بقليل من وضوح الرؤية يكتشف أن فتح مكة لم يكن هزيمة لقريش، وهو الأمر الذي نلحظه في تذمر الأنصار، ثم بعد ذلك عمل النبي ﷺ بنفسه على تكريس الوضع الاجتماعي القائم، عن طريق الأعطيات والإقطاعات، ثم دعم الوحي ذلك بتكريس الملكية الفردية:

وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ،

بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى:

ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا ممْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (النحل: ٧٥)،

ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله:

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام: ١٦٥).

لكن كان واضحًا أن الأمر بهذا المعنى لم يصل إلى أذهان الأرستقراطيين المكيين في ظل دعوة الإسلام الأولى للمستضعفين، فكانت فتنتهم بحديث الغرانيق، لكن توتر بعض المسلمين نتيجة ما ألقى الشيطان، وتضعضع أحوالهم المعنوية، كان لا بد أن تتبعه العودة السريعة بإيضاح دور الشيطان فيما حدث.

والذي كان أيضًا اختبارًا للمسلمين المستضعفين لإظهار مقدار الطاعة، ومدى مسارعتهم إليها مسارعة إسماعيل إلى الذبح طاعة للأمر الإلهي، وعليه فقد جاء النسخ لما ألقى الشيطان في الوحي، عملًا إجرائيًّا كانت أطرافه الاعتبارية القبلية في جانب والوحدة المرتقبة في جانب آخر، وأطرافه الشخوصية هي أهل مكة في جانب، والنبي ﷺ في جانب، بينما كانت أدوات هذا الجدل هي الشفعاء، والشيطان، وكلمات الله التي تمثلت في وحي لا كالإلهام، ولا كالخاطر، ولا كالهاجس، لكنه الوحي الصادق الذي أدى دورًا غني الدلالة، ويشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واعٍ مريد.

كان الوحي هنا فعلًا شعوريًّا يتسم بالإدراك والوعي التامين لما يحدث، ولشكل الاستجابة المطلوبة بحسب شروط الواقع وضروراته. كان وعيًا بطبيعة المرحلة الآنية آنذاك، وبطبيعة المرحلة المقبلة وما سيلحقها من تحولات.


١ الطبري (ابن جرير): تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة ط٢، ١٩٦٠م، ج٢، ص٣٣٧–٣٤٠.
٢ النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص١٢.
٣ نفسه، ص٢٢٥.
٤ الطبري: الموضع السابق ذكره.
٥ د. شعبان محمد إسماعيل: سبق ذكره، ص١١.
٦ النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص٢٢٥.
٧ د. شعبان محمد إسماعيل: سبق ذكره، ص١٣.
٨ النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص٢٢٥.
٩ المرجع السابق، ص٢٢٦.


الصورة الرئيسية: نقش من مدينة الحضر يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي، ويصور الإلهة اللات محاطة بشخصيتين ، ربما الآلهة العزى ومنات. متحف العراق.