يمثل التكفير وجها من وجوه تجاوز رجل الدين حدود الإفتاء الديني إلى تهديد أمن الأفراد واستقرار المجتمعات، وهو ما ينبغي أن يدخل في دائرة الزجر والعقاب مثل كلّ الأعمال التي تترتب عليها الجرائم والجنايات.
بقلم: د. محمد الحدّاد
وهناك وجه آخر من تجاوز المفتي حدود الإفتاء الديني عندما يتدخّل في مسائل علميّة من اختصاص العلماء بالمعنى الحقيقي، وهي مسألة متصلة أيضا بقضية التكفير. وما نرغب في بيانه في هذا المقال هو أنّ سلبيات الفتوى المضللة قد تتجاوز تكفير شخص بعينه وتهديد حياته إلى نشر الموت ثقافة لمجتمع بأكمله.
لسنا من هواة محاسبة الموتى ومحاكمة التاريخ، غير أنّ العديد من القضايا المعاصرة لا يمكن أن تفهم إلاّ من خلال امتداداتها التاريخية الطويلة وأصولها العميقة. ولسنا من الذين يلقون على الفقهاء وحدهم مسؤوليات الماضي، فهم جزء من نظام عامّ متنوّع ومعقّد لا يمكن اختصاره في بعض الأحكام المتسرعة. لكنّ الواقع أنّ سيادة “العقليّة الفقهيّة” هي نتيجة تضخّم الدور الفقهي دون حدّ وتقلّص المعارف الأخرى، ونتيجة توسّع المؤسسة الفقهيّة على حساب مؤسسات معرفية واجتماعية أخرى كانت حاجة المجتمعات والبشر إليها أكثر تأكّدا. وسنقدّم في هذا المقال الحجّة على أنّ بعض الفتاوى المضلّلة كانت سببا في موت الملايين من المسلمين أطفالا ونساء ورجالا وقد تجاوز عددهم ضحايا غزوات المغول والتتار.
حدث ذلك منذ ما يعرف بالوباء الأعظم وهو وباء اجتاح العالم بأسره في القرن الرابع عشر ميلادي (الموافق للقرن الثامن الهجري) وهو القرن الذي عاش فيه ابن خلدون وقد ترك في نفسه أثرا بالغا إذ فقد بسببه والديه والعديد من شيوخه، ووصل هذا الوباء إلى تونس بين سنتي 1348 و1349 وتحدّث عنه ابن خلدون في مقدّمة “المقدّمة” فوصفه بأنّه
”الطاعون الجارف الذي تحيّف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها (…) وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل (…) وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة‟.
ووجود ابن خلدون في ذلك العصر دليل على أنّ نزعة التعقّل لم تنطفئ جذوتها بعد، إلاّ أنّنا نعلم موقف الفقهاء من ابن خلدون فقد ناصبوه العداء ورفضوا إدماج علمه في المنظومة المعرفيّة التي أضحوا مسيطرين عليها. ومن الذين حاربوه في حياته نذكر مغربا ابن عرفة الذي كان من كبار فقهاء المالكية، ومن الذين استنقصوه وذموه بعد مماته نذكر مشرقا ابن حجر العسقلاني وهو فقيه شافعي وصاحب أهمّ الشروح على صحيح البخاري وما زال شرحه يتداول ويعتبر المرجع والحجّة وعنوانه “فتح الباري بشرح صحيح البخاري”، وقد فقد ابن حجر أيضا بعض أفراد عائلته في الطاعون.
أنّ الوباء رحمة لأنّه يمكّن المسلم من الشهادة
فزع الناس إلى ابن حجر ليفتيهم في شأن هذه المصيبة العظمى التي حاقت بهم فأخرج لهم رسالة عنوانها يختزل محتواها: “بذل الماعون في فوائد الطاعون”! أخبرهم الفقيه المحدّث ابن حجر أنّ النبيّ قال:
”الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين‟.
فعلى أمّة محمّد أن لا تفزع من الطاعون وإنما تنتظره بالفرح والبهجة فمن مات به فاز بالشهادة واعتبر في عداد الشهداء. ويترتب على ذلك طبعا أن لا يستشير الناس الأطباء في أمره لأنه كما يقول
”قد أعيى الأطباء دواؤه حتّى سلّم حذاقهم أنّه لا دواء له ولا دافع له إلاّ الذي خلقه وقدّره‟.
وبما أنّ الفقيه يعتبر نفسه الممثل للخالق المدبّر فهو الذي يتولّى مسؤولية إرشاد الناس بشأنه. وانتقلت القضيّة من البحث عن التوقّي من الوباء أو معالجة المصابين به إلى تحديد آداب استقباله والاحتفاء به باعتباره رحمة من ربّ العالمين وسبيل الشهادة للمسلمين. أمّا افتراض أنّ الطاعون ينتقل بالعدوى كما كان يقول الأطباء فقد أصبح من الممنوعات الدينيّة ومن مذاهب الكفر، يقول شارح البخاري:
”المحصل من المذاهب في العدوى أربعة: الأول أنّ المرض يعدي بطبعه صرفا وهذا قول الكفار.
والثاني أنّ المرض يعدي بأمر خلقه الله تعالى فيه وأودعه فيه لا ينفكّ عنه أصلا إلاّ أن يقع لصاحب معجزة أو كرامة فيتخلّف، وهذا مذهب إسلامي لكنّه مرجوح.
الثالث أنّ المرض يعدي لكن لا بطبعه بل بعادة أجراها الله فيه غالبا كما أجرى العادة بإحراق النار وقد يتخلّف ذلك بإرادة الله تعالى لكن التخلف نادر في العادة.
الرابع أنّ المرض لا يعدي بطبعه أصلا بل من اتفق له وقوع ذلك المرض فهو بخلق الله سبحانه وتعالى وذلك منه ابتداء. والذي يترجّح في باب العدوى هو الأخير‟.
فإذا ثبت أنّ الوباء لا ينتقل بالعدوى فلم تعد من حاجة للاهتمام بما قال الأطباء بشأنه، وإنّما يستعرض الفقيه المحدّث ما ورد من آيات قرآنية وأحاديث وأقوال فقهاء سبقوه أو عاصروه.
والصورة الإجمالية التي يخرج بها القارئ هي أنّ الوباء رحمة لأنّه يمكّن المسلم من الشهادة دون أن يكلّف نسفه عناء المشاركة في الحروب، فالشهادة تأتيه إلى بيته إذا صدق النيّة وأقرّ العزم. وإذا ما عزّت عليه نفسه ورغب في التوقّي من الوباء فإنّ عليه، حسب رأي الفقيه المحدّث ابن حجر، أن يكرّر عبارة الصلاة على النبيّ بكيفيّات مخصوصة فصّلها في رسالته. ومن الوسائل الأخرى للتوقّي كما ينقلها عن فقهاء سابقين: شرب الطين وإدامة التبخّر بالعود واللوبان الذكر وتقليد نهيق الحمار! لكن إذا ما أدرك الطاعون شخصا في قرية يقيم بها فقد انتفى بشأنه الخيار ويتعيّن عليه أن لا يفرّ من المكان الموبوء لأنّ الفرار يصبح تهرّبا من القدر وعليه أن ينتظر قضاء الله فيه.
أقحم ابن حجر قضية الوباء في المباحث الفقهيّة فصارت من اختصاص الفقهاء
لقد أقحم ابن حجر قضية الوباء في المباحث الفقهيّة فصارت من اختصاص الفقهاء. ومع أنّ السيوطي المتوفّي سنة 1505/ 911 لم يعش فترة هذا الطاعون، فقد رأى من واجبه كفقيه أن يبسّط المعرفة الفقهيّة في هذا الموضوع لعموم المتفقهين، فقام باختصار رسالة ابن حجر وما أضافه الفقهاء بعده بشأن الوباء ووضع لمختصره عنوان ”كتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون‟. واستفتى أحدهم السيوطي في موضوع الوباء فأجابه في شكل أرجوزة ليسهل عليه وعلى أمثاله حفظ الجواب، وهذا نصّها:
الحمد لله يحسن الابتداء/ وبالمختار ينعطف الثناء
سألت فخذ جوابك عن يقين/ فما أودعت عندهم هباء
فما الطاعون أفلاك ولا ذا/ مزاج ساء وانفسد الهواء
رسول الله أخبرنا أنّ هذا/ بوخز للجنّ يطعننا العداء
يسلطهم إله العرش لما/ تفشو المعاصي والزناء
يكون شهادة في مآل خير/ ورجسا لأولي بالرجس باؤوا
أتانا كلّ هذا في حديث/ صحيح ما به ضعف وداء
ومن يترك حديثا عن نبيّ/ لما قال الفلاسفة الجفاء
فذلك ما له في العقل حظّ/ ومن دين النبيّ هو البراء
وناظمه السيوطي وهو يدعو/ بكشف الكرب إذا قبل الدعاء.
ويبدو أنّ هذه الأرجوزة قد انتشرت ليسر حفظها بين الفقهاء فكانوا يتلونها على من يستفتيهم في الأوبئة التي تكرّرت كثيرا في العالم الإسلامي إلى أن أنقذهم منها العلم الغربي الحديث. ومن فرط شهرة أرجوزة السيوطي وهو الفقيه والمحدث الشافعي المشهور الذي كان يعدّ نفسه مجدّد القرن العاشر وكبير مجتهديه، قال البعض أنّ من أراد التوقّي من الوباء فعليه أن يحفظ هذه الأرجوزة وينشدها فسيرتفع الوباء عن الناس.
مواضيع قد تهمك
وقد تبدو هذه القضايا من الماضي المندثر لولا أنّ ابن حجر هو الشارح الأكبر لصحيح البخاري وهو الحجّة في هذا الميدان. فكتابه ”فتح الباري‟ هو المرجع لكلّ المفتين إلى اليوم، ولولا أنّ كتب السيوطي الكثيرة لا تغيب عن مكتبة من مكتباتنا من المحيط إلى المحيط.
والعقليّة التي عالجت قضية الوباء بهذا الشكل وحرمت الناس من بعض الوسائل التي كان يمكن للطب تقديمها مهما كانت محدوديتها في ذلك العصر هي التي فسرت القرآن وشرحت الحديث وجمعت الفتاوى وأعدّت الفقه، وهي التي تمثل إلى اليوم المرجعية الدينية والحجة السلطوية (argument d’autorité) فلا مجال للتديّن خارج آلياتها ومقولاتها.