لابد من التمييز بين الدين كمنظومة نصوص مُقدسة والفكر الديني الذي يحاول الاستفادة من هذه النصوص في تطبيقات اجتماعية اوفكرية. عدم القدرة على التمييز بينهما تقود الى تجاوز القداسة المُحددة دينيا الى مساحات اكبر لتشمل المُفكر الديني نفسه وكتبه وتعاليمه ولكون العملية مُتسلسلة زمنيا فان سُلسلة القداسةِ ستكون تراكمية وبازدياد.

بقلم: محمد الصندوق


ان اختلاف المُفكرين المُقدسين يقود الى مدارس مُختلفة مُقدسة ومن ثم تَحمل كل مدرسة طابع دين جديد مستقل. وهنا تظهر الحروب المُقدسة التي يحاول كل طرف فيها الادعاء بانه الممثل الاوحد للدين. هذا من جهة ومن جهة اخرى عدم التمييز يقود الى تجاوز الحدود المقدسة المنصوصة الى حدود تحريم ومنع  وتكفير اكبر واكبر حتى تصبح الحرية اضيق واضيق.

على ذلك هناك فرق كبير وواسع ما بين الدين ونصوصه المقدسة الثابته وبين الفكر الديني وافكاره المتغيرة زمانيا ومكانيا ومن مفكر لاخر. ألعلم واحد من الجوانب الحساسة للادلجة الاجتماعية لذا فان للفكر الديني تأثير كبير وخطير عليه. وردت مُفردة العِلم بتصريفات مختلفة عامة من دون تحديد معين في النص القرأني. وهذه العمومية هي ما قادت في فترة النهضة العلمية الى اعتبار كافة المعارف مُستوعبة ضمن إطار العلم القرأني ومن ثم الى إزدهار عملية نقل المعارف من الشعوب الاخرى ونموها في الحضارة العربية الاسلامية. وهكذا نجد ازدهار تناول علوم مثل الكيمياء والميكانيك والرياضيات والاحياء والفلك….بالاضافة لعلوم الدين واللغة. كان ذلك في فترة ظهور وازدهار الاعتزال مابين القرنين الثامن والحادي عشر تقريبا.

انطمر الانجاز العلمي العربي الاسلامي  تماما  حتى تم اكتشافه من قبل المستشرقين

العلوم الطبيعية تستند على عدة جوانب منها التحليل المنطقي وحرية التناول والطرح  وحرية النقاش وتناقل المعلومة ومما لا شك فيه  ان الاعتزال وفر هذه الجوانب في الحياة الاجتماعية وقتذاك. ان تناول هذه العلوم جميعها كانت ضمن البيئه الدينيه المنفتحه نسبيا التى ساهمت في بروز هذه الظاهرة الغريبة عن المجتمعات العربية التي لم يسبق لها التعامل مع العِلم حيث مما يُعرف عن هذه الحضارة انها حضارة أدبية لغوية أكثر من كونها منطقية اوفكرية. وكان للترجمة دور كبير وهائل في تقليص عامل الزمن وتسريع النموالتراكمي للمعرفة العلمية. لقد ترك فكر الاعتزال نهضة علمية جليه وناتج فكري حضاري متطور بالمقياس الزمني للفترة تلك. تلك النهضة لا يمكن فصلها عن الاطار الاسلامي الذي نمت فيه من خلال فكر الاعتزال.

بعد إنهيار الاعتزال ومحاربة فكره منذ عهد المتوكل العباسي (821-861م) بدء التراجع في الاهتمام العلمي. لقد كان المجتمع وقتذاك ما يزال كما كان بإطاره الديني ولكن ما حصل هوظهور فكر اخر تناول النص المقدس باسلوب اخر وتعامل مع المنطق العقلي بإلغاء كبير  وهذا ما قاد الى دمار هائل ما تزال الشعوب العربية والاسلامية تعيشه. لقد تناول الكثير من الباحثين التطور العلمي في الحضارة العربية الاسلامية بجزئيها المتطور والمتراجع وتم التركيز على فكر الغزالي (1058م1111م) [2,1] بأعتباره مسبب أساسي للتراجع العلمي. كما درستها أنا باسلوب احصائي أظهر وبوضوح الفترتين المتميزتين وعَزيتُ التراجع العلمي المستمر الى الأنغلاق الفكري وعدم الحريه الفكرية [3]. كما تبين ان التراجع العلمي استمر لعدة قرون حتى القرن العشرين. ومن الكُتاب المحدثين الذي توصل لنفس النتيجه الكاتب الامريكي (Robert Reilly) [4].

ان توقف العطاء العلمي اقرب ما يكون للانقراض الحضاري

على اية حال انطمر الانجاز العلمي العربي الاسلامي  لقرون عدة ونُسي تماما  حتى تم اكتشافه من قبل المستشرقين. لقد كانت الأكاديميات الغربية قبل عهد التنوير(في القرن الثامن عشر) مهتمة بالحضارتين الإغريقية والرومانية ولكن فيما بعد اخذ الاهتمام الغربي يتجه نحوالشرق وازداد الاهتمام بالحضارات العربية الإسلامية والصينية وهكذا بدء الاستشراق “”Orientalism في نهاية القرن الثامن عشر تقريبا وأصبح الشرق موضوعا مدروسا ثراً للدراسات الإنسانية وحسب المنهجية العلمية الوليدة وقتذاك والتي أخذت تزداد تطورا بمرور الزمن. وقادت دراسات البحث عن الأسس العلمية للأفكار والمبادئ الى التوصل الى الكثير من الجذور العلمية العربية المجهولة المصدر للعرب أنفسهم قبل الغرب. 

على سبيل المثال العالم العربي الحسن بن الهيثم (965- 1039م) واحدا من أهم العلماء العرب في العصور الوسطى وبعده لم يعرف العرب أي تطوير لأعماله العلمية وبذلك انقطع التواصل العربي لأبحاث الحسن بن الهيثم. ولكن نجد إشارة له في كتابات الفيلسوف روجر بيكون (Roger Bacon) المتوفى عام 1294م حيث ذكره في مؤلفاته وكانوا يسمونه (Alhazen). وكان ذلك بعد وفاة الحسن بن الهيثم بحوالي 255 سنة. وبعد ظهور علم الضوء كفرع متخصص في الفيزياء الحديثه في الغرب اكتشف العلماء الغربيون الحسن بن الهيثم من جديد. وقال عنه مؤلف “كتاب المدخل الى تاريخ العلوم” جورج سارتون (George Sarton) [5]:

“لم يكن الحسن بن الهيثم أعظم عالم إسلامي وإنما بكل القياسات انه كان أعظم علماء القرون الوسطى”.

لقد اختفى الحسن بن الهيثم من تاريخ العرب والمسلمون لعدة قرون خلال فترة التراجع وبقى مجهولا لديهم كعالم بصريات بارز حتى القرن العشرين. لم يكن العرب والمسلمون قبل القرن العشرين بموئهلين ليكتشفوا تاريخهم علميا وخارج مما هومَروي وغير محقق.

قد لا يحتاج الفكر الاعتزالي لتبيان موقفه من العلم لان ما تركه خلال فترة النهضة  خير ما يُفسر هذا الموقف. بعد اندحار الفكر المعتزلي كانت العلوم الطبيعية اول واهم ضحايا ذلك الاندحار.

الفكرالاسلامي المعاصر يحاول الاقتراب من العلم من خلال البحث عن منجزات العلم المعاصر بين طيات القرأن الكريم  فيما يُسمى بالاعجاز العلمي كما يُقَيم باجلال علماء النهضة ويعتبرهم سندا مؤيدا لمقولة العلم والدين التي اطلقها المسلمون المعاصرون. ولو كان موقف الفكر الديني من العلوم الطبيعية هكذا كما يقول المعاصرون فلماذا اندثرت الحضارة العلمية  العربية الاسلامية  لقرون من دون محاولة للنهضة من جديد؟ ان توقف العطاء العلمي لقرون عدة اقرب ما يكون للانقراض الحضاري.


1-Glick, Thomas F. & Livesey, Steven John, Faith Wallis, Medieval Science, technology, and medicine: an encyclopedia. 2005. Routledge, 194.

2-Huff, Toby, The rise of early modern science: Islam, China, and the West. 2003, Cambridge University Press, p.114.

3-Sanduk, M.I., (2009), “The Influence of Freedom on Growth of Science in Arabic-Islamic and Western Civilizations”, PhilSci-Archive, University of Pittsburgh. 

http://philsci-archive.pitt.edu/4766/. Retrieved 2011-12-22. 

4-Reilly, R. R. (2010), The Closing of the Muslim Mind, ISI Books. USA.

5-Sarton, G. (1931). Introduction to the History of Science (3 v. in 5), Carnegie Institution of Washington Publication no. 376. Baltimore.

الصورة الرئيسية: الصفحة الأولى من Opticae Thesaurus Alhazeni Arabis ، طبعة لاتينية لكتاب المناظر لابن الهيث, عام 1572.

اخذ الاهتمام الغربي يتجه نحوالشرق

اختفى الحسن بن الهيثم من تاريخ العرب والمسلمون لعدة قرون