من هزيمة المعتزلة الى انتصار الحنابلةاما الان فسوف نتوقف قليلا عند حركة فكرية كبيرة أثرت على الفكر العربي الإسلامي لعدة قرون مقبلة قبل ان تسحق من قبل الحنابلة سحقا ويسحق معها العقل والفكر: انها فرقة المعتزلة.

بقلم: هاشم صالح


يرى اركون ان هناك معطيين اساسيين ينبغي ان يقودا نظرتنا عندما نتنطح لدراسة هذه الحركة الفكرية الشهيرة في تاريخ الاسلام. الاول هو انه لا توجد في البصرة اولا ثم في بغداد ثانيا مدرسة فكرية وحيدة تعتنق نفس العقيدة وتحمل اسم: المعتزلة. وانما توجد شخصيات عديدة ذات طبائع ومواقف فكرية مختلفة ومع ذلك فكلها تنتمي الى الاعتزال. فمثلا فيما يخص المسألة الحاسمة المتعلقة بالخلافة او الامامة نلاحظ ان عمرو بن عبيد والجاحظ وثمامة كانوا مؤيدين لأبي بكر هذا في حين ان الجبائي  وبشر بن المعتمر والاسكافي كانوا من أنصار علي بن ابي طالب ويعتقدون بانه الأحق بالخلافة. وبالتالي فالمعتزلة كانت حركة تعددية تقبل بحق الاختلاف بين اعضائها حتى فيما يخص مسائل خطيرة طالما قسمت المسلمين كمسألة خلافة الرسول.

المعطى الثاني الذي ينبغي ان نأخذه بعين الاعتبار عندما ندرس هذا التيار الفكري الهام يخص علاقته بالفلسفة. لاريب في ان الامكانيات الفكرية للمعتزلة اصبحت اكثر اكتمالا بعد انتقالها من البصرة الى بغداد واطلاعها على الفلسفة اليونانية. عندئذ حصل اتفاق بين جميع تيارات المعتزلة على عدة مباديئ اساسية تمثل القواسم المشتركة بالنسبة لها: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وربما كان انحطاط العالم العربي والاسلامي كله يعود الى تخليه عن لاهوت المعتزلة العقلاني

ويعتقد الباحثون  ان اول من بلور هذه المباديئ التي تمثل عقيدة المعتزلة هو ابو الهذيل العلاف في مؤلفه المدعو “بكتاب الحجج”. وهنا تتجلى أصالة المعتزلة وعقلانيتهم وشجاعتهم الفكرية بالقياس الى كل المذاهب الاسلامية الأخرى. فقد حرروا العقل الى حد كبير من هيمنة السمع: أي التراث الديني المقدس. وبدءا من ذلك التاريخ اصبح التضاد بين المعارف العقلية او العقليات كما كانوا يقولون/ والمعارف السمعية او السمعيات شيئا محوريا وأساسيا في تاريخ الاسلام. اصبح معيارا موثوقا ويمكن الاعتماد عليه من اجل تصنيف المفكرين وكل الاعمال الفكرية والثقافية فنقول: هذا مفكر عقلاني، وذاك مفكر سمعي او تقليدي يكتفي بتكرار ما يسمعه من كلام ديني يفرض نفسه فوق العقل أو خارج اطار العقل.

وعظمة المعتزلة تعود الى انهم ركزوا على فكرتين اساسيتين هما: توحيد الله وعدله، ولذلك كانوا يدعونهم احيانا “بأهل التوحيد والعدل” ثم أضافوا اليهما فكرة ثالثة تخص الارادة البشرية ومسؤولية الانسان عن أعماله وان الله ليس مسؤولا عن الاعمال الشريرة التي يقوم بها الانسان، معاذ الله! فالله لا ينتج عنه الا الخير المحض ولذلك فهم يرفضون بشكل قاطع تلك المقولة التي ترسخت في جهة التقليديين والتي تقول: بان القضاء خيره وشره من الله تعالى. انها تصدمهم جدا وتصدم كل ذي حس سليم: اذ كيف يمكن ان نربط فكرة الشر بالله، مجرد ربط؟ كيف يمكن ان يصدر الشر عن الله؟ شيئ مضاد لكل منطق او عقل. ومع ذلك فهذه هي المقولة التي ترسخت في العالم الإسلامي او أغلبيته حتى الان. وفي كل المدارس العربية تدرس هذه المقولة وكأنها مسلمة الهية لا يرقى اليها الشك! وربما كان انحطاط العالم العربي والاسلامي كله يعود الى تخليه عن لاهوت المعتزلة العقلاني المسؤول وتبنيه للاهوت خصومهم التواكلي الذي لا يؤمن بفكرة السببية ولا بفكرة المسؤولية البشرية. هنا يكمن الخلل الاول الذي أصاب العقلية العربية الاسلامية وثمنه لا يزال يدفع حتى هذه اللحظة.

تكفير العقل في الاسلام مستمر منذ الف سنة

ويرى محمد اركون ان ابراهيم النظام استاذ الجاحظ الذي مات عام   231هجرية أي 846 ميلادية كان مثالا على المفكر المعتزلي النموذجي الذي لم يفهمه مفكرو السنة ابدا  ولم يقدروه حق قدره. انظر كمثال على ذلك ما قاله عنه بعض مؤلفي كتب الملل والنحل كالبغدادي والشهرستاني مثلا. فهذا الاخير اتهمه باحداث البدع في الاسلام ان لم يكن بالخروج عليه! لماذا؟ لانه يختلف مع بعض مقولات أهل السنة. اما السلفيون المعاصرون فقد كفروه واتهموه بالزندقة هذا في حين انه كان مسلما حقيقيا وعقلانيا كبيرا في آن معا. وقد حاول جاهدا ان يشكل نزعة توحيدية صارمة جدا مبنية على العقل والقرآن. ووقف سدا منيعا ضد سيل الاحاديث النبوية المتدفقة والمشبوهة وفتح صدره واسعا للمعرفة التي كان يمكن ان يتلقاها من الفلسفة اليونانية. كما وخاض حربا ضروسا على جبهتين اثنتين:جبهة الثنويين والدهريين أي الملاحدة من جهة، وجبهة الحنابلة واهل الحديث والتقليد من جهة اخرى. ولهذا السبب بالذات فان أحد زعماء السلفية المعاصرة الشيخ سفر الحوالي كفره قائلا:

“الا ان بعض هؤلاء الزنادقة ظهر أمره وبعضهم لم ينفضح امثال المعتزلة الكبار كالهذيل بن العلاف وابراهيم النظام فقد كانوا زنادقة، بل الجاحظ يعد من الزنادقة وله رسائل تشهد على انه زنديق والعياذ بالله”[1].

لاحظ ان كل عظماء الامة اصبحوا كفارا وزنادقة بمن فيهم الجاحظ! بل وأضاف هذا الشيخ السلفي الى ادانة زعماء المعتزلة كلا من المعري والحلاج وابن عربي وسواهم. كل عباقرة الأمة أصبحوا كفارا! انه لشيئ مخيف حقا: تكفير العقل في الاسلام مستمر منذ الف سنة وحتى اليوم ثم يدعون ذلك بالصحوة الاسلامية! فاذا كانت الصحوة هي هذا فما بالك بالاغفاءة او النومة على التاريخ؟ هذا يعني ان نهضة هذه الأمة لن تكون غدا ولا بعد غد.. اللهم اذا ما استمر هؤلاء السلفيون المضادون للعلم والفلسفة والعقل في فرض آرائهم الانغلاقية ان لم أقل الارهابية على الفضائيات الدينية وبرامج التعليم في العالم العربي.

اما محمد اركون فعلى عكس هؤلاء السلفيين القدامى والجدد فانه يشيد بالمعتزلة وبأطروحتهم الشهيرة عن خلق القرآن. لماذا؟ لانهم جعلوا من النص المقدس رسالة يمكن تحديدها تاريخيا بدقة ويمكن فك رموزها او تفسيرها لغويا. وهكذا عارضوا أطروحة الحنابلة الغيبية اللاتاريخية ووضعوا النص القرآني تحت متناول عقل الانسان وقدرته على فهمه وتأويله. ومعلوم أن أطروحة الحنابلة طمست تاريخية القرآن بالكامل أو وضعته فوق التاريخ كليا.

للاسف فان أطروحة القرآن المخلوق وئدت في مهدها تقريبا

ولا تزال مهيمنة على عقلية المسلمين حتى اللحظة. وهي التي تشكل أكبر عقبة في وجه تحرر المسلمين من عقلية القرون الوسطى التكفيرية. ولكن لو ان أطروحة المعتزلة هي التي نجحت وتغلبت لكان يسهل علينا اليوم ان ننخرط في التفسير التاريخي للقرآن كما يفعل كبار المستشرقين في اللغات الاجنبية. ولكنها للاسف فان أطروحة القرآن المخلوق وئدت في مهدها تقريبا ولم تقم لها قائمة منذ الف سنة وحتى اليوم. وهذا يعطينا فكرة عن حجم الهزيمة الساحقة التي مني بها العقل في الاسلام ويفسر لنا في ذات الوقت سبب تأخر المسلمين وتقدم غيرهم[2].

يضاف الى ذلك ان المعتزلة بالحاحهم على مسؤولية الانسان عن أعماله حبذوا انبثاق الشخص الحر المستقل في الاسلام. ولكن هنا ايضا أجهضت أطروحتهم وحلت محلها الاطروحة الاشعرية القائلة بالكسب: أي ان الله هو المسؤول عن كل اعمال البشر بخيرها وشرها وانه لا توجد أي ارادة حرة للانسان وبالتالي فهو غير مسؤول عن اعماله في نهاية المطاف. فالقدر خيره وشره من الله تعالى! ثم ألغى الاشعري فكرة السببية التي هي أصل كل علم وكل عقل. وسار على نهجه الغزالي كما هو معروف. وهكذا اكتملت الآية فصولا وحصل الانغلاق الكامل وقضي على العقل والعقلانية في ارض الاسلام. ونحن ورثة كل ذلك في برامجنا التعليمية وأفكارنا الشخصية التواكلية بل وحتى في حياتنا اليومية.

فكيف يمكن اذن ان ننهض ونلحق بركب الامم المتقدمة؟ كيف يمكن أن نتخلص من عقلية التكفير والتفجير؟ كيف يمكن أن نستدرك ما فات ونخرج من المأزق الكبير الذي نتخبط فيه اليوم؟


[1] انظر موقع الشيخ سفر الحوالي على الانترنيت

[2] ولكن بالاضافة الى تكفير المعتزلة واباحة دمهم من قبل نص الاعتقاد القادري جرى تكفير الفلاسفة من قبل الغزالي في كتابه الشهير: تهافت الفلاسفة.وعلى هذا النحو حصلت هزيمة العقل في الاسلام.من المعلوم أن نص الاعتقاد القادري نسبة الى الخليفة العباسي القادر بالله كان قد أذيع في جوامع بغداد عام 1017 ميلادية:أي قبل ألف سنة الا أربع سنوات.لذلك نقول بأن العقل مهزوم في الاسلام منذ ألف سنة! من هنا صعوبة الاستيقاظ الفكري اليوم.ومن هنا هيمنة التيارات الظلامية اللاعقلانية على الساحة العربية والاسلامية ككل.

الصورة الرئيسية: سقراط يعلّم تلاميذه، من مخطوطة “مختار الحكم ومحاسن الكلم” لابن المبشر

محمد اركون: “المعتزلة جعلوا من النص المقدس رسالة يمكن تحديدها تاريخيا بدقة”

سفر الحوالي: “كان المعتزلة زنادقة”