كلمة حق لابد منها في حق المستشرقين، لتفنيد التشنيع بهم الشائع لدى مثقفي الإسلام التقليدي وأقصى اليمين الإسلامي، ورثاء الإنغلاق الديني الحنبلي، الذي حرّم منذ 8 قرون تدريس “العلوم اليونانية الدخيلة” عن القرآن والسنة، بما هما شرطان ضروريان وكافيان لفوز المسلم بالسعادة في الدارين! في نظرهم، المستشرقون هم ورثاء “العلوم الدخيلة” المعاصرة، التي يعتبرها أقصى اليمين التقليدي والإسلامي علوماً دخيلة، بل هي في نظره أشد خطراً على الإسلام من العلوم الدخيلة القديمة. 

بقلم: العفيف الاخضر


المستشرقون عندهم، هم طابور خامس في حرب”الغزو الفكري”على الإسلام.  والحال أن المستشرق يقدم خدمة جليلة بدراسته القرآن وصاحب القرآن، على ضوء العلوم الحديثة، خاصة الفيلولوجيا [= علم تاريخي موضوعه دراسة معرفة الحضارات الماضية عبر الوثائق المكتوبة، التي تركتها وقد دُرس بها العهد القديم]، بعيداً عن الهم الجدالي القديم.

وقد ارتكب إدوارد سعيد خطأ تاريخياً فادحاً وربما مغرضاً، عندما اعتبر المستشرقين، عدا قلة منهم جاك بيرك، طابوراً خامساً لجيوش الفتوحات الإستعمارية، مقدماً بذلك خدمة مجانية لأقصى اليمين الإسلامي، الحساس، حتى الرهاب، لمقاربة تاريخ الإسلام بالعلوم الحديثة، التي يحرمها ويجرمها.

وكيف ننسى عشرات الأسماء التي ألقت إضاءات علمية ثمينة على الإسلام وتاريخه

الطريقة التاريخية النقدية الإستشراقية، هي التي درسوا بها تراثهم وبعض تراث الإسلام في القرن الـ19، والتي أنتجت لاهوت يهودياً ـ مسيحياً مستنيراً.

كان المستشرقون يعملون على ظهور لاهوت إسلامي مستنير، على صورة الاهوت اليهودي ـ المسيحي المستنير، يرفع من مستوى الفكر الديني الإسلامي، ليتطابق مع معارف العصر العقلانية والعلمية؛ كانوا يطمحون لمساعدة المثقفين المسلمين، على الإنتهاء من طريقة التقريض العقيمة، التي يكتب بها المؤمنون للمؤمنين، والتي كانت غالبية المثقفين المسلمين ـ وإلى حد كبير مازالوا ـ يقاربون بها تراثنا الديني بمنطق: ليس في الإمكان أبدع مما كان!

الطريقة الإستشراقية التاريخية النقدية،أثرت في النخب الثقافية العربية والإسلامية في القرن الـ 20 ،الذين حاولوا،بنجاح متفاوت،انتاج لاهوت إسلامي مستنير ورؤية لتاريخ الإسلام مختلفة عن الرؤية التقريضية التقليدية العقيمة؛ مثلاً طبق طه حسين،بإحتشام أحياناً،هذه الطريقة التاريخية النقدية خاصة في كتابيه:في الشعر الجاهلي والفتنة الكبرى؛وطبقها منصور فهمي في رسالته الجامعية عن المرأة:”أحوال المرأة في الإسلام”؛وطبقها أحمد أمين في ثلاثيته:فجر ،وظهر،وضحى الإسلام؛وطبقها الدوري في دراساته عن تاريخ الإسلام وفي كتابه”علم التاريخ”(3)؛وطبقها لويس عوض في اسهاماته المتعددة وخاصة كتابه”فقه اللغة”الذي منعه الأزهر،وكتابه عن الأساطير الشعبية الهلالية؛وطبقها هشام جعيط: في الفتنة الكبرى…

ستكون ترجمة ما كتبه المستشرقون، وما قد يكتبونه عن القرآن وعن محمد وعن الإسلام إسهاماً أساسياً، في فهم القرآن ومحمد والإسلام فهماً تاريخياً، يقطع مع التمجيد الورع (بكسر الراء) السائد في الكتابة، عن هذه الموضوعات، اليوم، والذي يكثر غثّه ويقل سمينه.

لولا أمثال نولدكه، وبلاشير، واط، رودينسون، لكي أكتفي بأشهر الكلاسكيين، لبقي القرآن ونبيه لُغزاً. بالرغم من أنه مازالت توجد 3 كتب، بالألمانية عن محمد تعود إلى القرن 19، لم تترجم بعد؛ لولا الدراسات السياسية والسسيولوجية، الغربية المعاصرة، لظاهرة الإسلام السياسي، وخاصة لأقصى يمينه، لما استطاعت غالبية النخب، في ارض الإسلام، مقاربة الظاهرة وتحليلها. تحليلات أمثال جيل كيبال وجان بييار فيليو،وغيرهما من الخبراء الأوربيين والأنجلو سكسانيين، تشكل مصدراً ثميناً لفهم الظاهرة الإسلاموية في كثير من جوانبها. والحال أن بعض ما كتب عنها بالعربية لا يستحق حتى عناء القراءة.

كان المستشرقون يعملون على ظهور لاهوت إسلامي مستنير يرفع من مستوى الفكر الديني الإسلامي

وكيف ننسى عشرات الأسماء الأخرى، التي ألقت إضاءات علمية ثمينة على الإسلام وتاريخه وشخصياته؛ وفضلاً عن ذلك كوّنوا أجيالاً من الجامعيين المستنيرين في ارض الإسلام. من هؤلاء المعلمين الكبار أذكر، عفو الخاطر، جولد زيهير، الذي حلل تفاسير القرآن بالمفاهيم العلمية الحديثة، وبلاشير، الذي قدم أول ـ وللآسف ـ آخر ترجمة فيلولوجية  للقرآن، وماسنيون، أهم وأول من عرّف الإسلام الصوفي بكتابه “صلب الحلاج”، فضلاً عن اضاءاته الأخرى التي سلطها على الفن الإسلامي والمنطق الإسلامي والنحو العربي؛ وجيب، قد يكون أول من أكتشف عجز المثقف العربي عن الكتابة بالمفاهيم العقلانية، الوحيدة المنتجة للعقلانية الفلسفية والعلمية وللأخلاق النفعية. لكنه فسر ذلك بخاصية الفكر السامي التذريري، أي العاجز عن السانتاز.

لكنه في نظري عائد بالأحرى إلى تأثير القرآن الذي يغيب فيه الرابط المنطقي بين السور والآيات. فضلاً عن رمزية الله، الفعال لما يريد، كيف يريد ومتى يريد. سلاحه الوحيد هو الفكر السحري: “إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون” (82 يا سن)، أي إرغام الواقع على إعطاء نتائج مخالفة لقوانينه.هذا المناخ الديني مضاد للتطور العلمي؛ وآدم ميتز، الذي حلل في كتابه “الإمبراطورية العربية”، كيف أعاق الإستهلاك الترفي التبذيري للخلفاء مراكمة رأس المال وظهور اقتصاد منتج، وهنري كوربان، الذي حلل الفكر الشيعي على ضوء العلوم الحديثة، ولاووست، الذي قدم بتحليله لإبن تيمية نموذجاً للدراسة الحديثة للشخصيات الإسلامية، وكلود كاهان، الذي كان أول من حلل الأزمة المالية التي أدت إلى سقوط الخلافة الأموية، ولوي جارودي، الذي فسر كيف أن الفلاسفة العرب كانوا متكلمين، أكثر مما كانوا فلاسفة، والصديق جاك برك، الذي، فضلاً عن إسهاماته الثمينة الأخرى، قدم أول ترجمة أدبية للقرآن، مع مقدمة تحليلية، تقريضية إلى حد ما، إذ رأى في ورود فعل “يعقل”40 مرة في القرآن دليلاً على حثه على استخدام العقل، وتناسى مجاملة على الأرجح، كل الفكر الغيبي والسحري المبثوث في معظم آياته.

مواضيع قد تهمك

ثناء على الاستشراق! – 1

لكنه قدّم في مدخله التحليلي ملاحظات فقهية وسسيولوجية وتاريخية مهمة؛(4) وشوراكي، الذي قدم ترجمة طريفة للقرآن أعادت مصطلحاته الدينية إلى أصلها التوراتي، وفان إس، الذي نفضَ نقدياً الغبار على مكاسب العقلانية الإعتزالية وثغراتها، وبرنارد لويس، الذي قدم مقاربة نقدية ثرية للإسلام والناطقين المعاصرين بإسمه، جدير بكل مسلم، ناضج لتقبل النقد بصدر رحب وممارسة النقد الذاتي بشجاعة، أن يستفيد منها للإفلات من مصيدة النرجسية الدينية المنغلقة على نفسها، والتي أدخلت الإسلام في الإنحطاط، والتي مازالت تلحق بصورة الإسلام، في مرآة الرأي العام العالمي، وبمصالح المسلمين أذى بليغاً.


[1] قد ترجم هذا النص من كتاب “من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ”  للعفيف الأخضر, منشورات الجمل 2014 (ص 21-26).

الصورة الرئيسية: صفحة الغلاف للطبعة الأولى من كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد ، ١٩٧٨، تُظهر جزءًا من “The Snake Charmer” (١٨٨٠)، لوحة استشراقية لجون ليون جيروم (١٨٢٤–١٩٠٤).

رجيس بلاشير: قدم أول ترجمة فيلولوجية  للقرآن

برنارد لويس: قدم مقاربة نقدية ثرية للإسلام