قد شوهت صورة الاستشراق في العالم العربي. لكن علماء أوروبا من مستشرقين أو غير مستشرقين طبقوا نفس المنهجية العلمية على تراثهم أولا قبل أن يطبقوه على تراثنا.

بقلم: هاشم صالح


أقصد الاستشراق الأكاديمي بالطبع لا الاستشراق المسيس السطحي لذي كان مرتبطا بالادارة الاستعمارية ابان القرن التاسع عشر وحتى منتصف العشرين.أكبر خطيئة ارتكبها المثقفون العرب الحداثيون الذين هاجموا الاستشراق هي أنهم لم يميزوا بما فيه الكفاية بين هذين النوعين من الاستشراق. وكانت النتيجة أن صورة الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى شوهت أيضا في العالم العربي وليس فقط الاستشراق الآخر الذي لا قيمة له ولم يبق منه شيء أصلا.هذه جريمة ارتكبت في حق العلم والمنهج الرصين والبحث المضني عن الحقيقة. ذلك أن الاستشراق الأكاديمي كان يبحث عن الحقيقة بكل صدق ويسلط أضواء ساطعة على التراث العربي الاسلامي. ونحن بأمس الحاجة الى ذلك. ولكننا نعلم أن ادوارد سعيد في أواخر أيامه تخلى عن هذا الهجوم الحاد على الاستشراق ودعا الى تشكيل نزعة انسانية وعلمانية كونية تجمع بين الغرب والشرق على بساط واحد[1].

أكبر خطيئة ارتكبها المثقفون العرب الحداثيون الذين هاجموا الاستشراق هي أنهم لم يميزوا بما فيه الكفاية بين هذين النوعين من الاستشراق

والواقع أن ما كان يزعجه أكثر هو المحافظون الجدد والمتطرفون وليس الغرب ولا الاستشراق ككل. فادوارد سعيد ليس أصوليا! ولا ينبغي أن نستنتج خلاصات خاطئة من كتابه عن الاستشراق. نقول ذلك على الرغم من بعض الأخطاء التي ارتكبها والأحكام المتسرعة التي صدرت عنه بسبب عدم تخصصه في الدراسات الاسلامية.ولكنه في نهاية المطاف كان ذا نزعة انسانية عميقة ويشكل جسرا حضاريا رائعا بين العالم العربي والعالم الغربي.

لكي نفهم سبب حصول الصدام المروع بين المسلمين التقليديين[2] والمستشرقين ينبغي علينا أن نموضع الاشكالية ضمن منظورها الواسع العريض. ينبغي العلم بأن المنهجية الفيلولوجية – التاريخية كانت قد طبقت أولا على التراث اليهودي المسيحي قبل أن تطبق لاحقا على التراث الاسلامي من قبل المستشرقين الكبار من أمثال غولدزيهر ونولدكه وشاخت وسواهم كثيرين.وبالتالي فعلماء أوروبا من مستشرقين أو غير مستشرقين طبقوا نفس المنهجية العلمية على تراثهم أولا قبل أن يطبقوه على تراثنا. وما كان هدفهم تدمير تراثنا أللهم الا اذا كانوا أيضا يرغبون في تدمير تراثهم هم أيضا! العلم لا يدمر الا الجهل والمعارف الخاطئة. العلم يعمر ويبني ويفتح الآفاق الواسعة. ولكنه مضطر أحيانا لأن يدمر الأفكار الخاطئة قبل أن يعمر أو يبني الأفكار الصحيحة. فالتصورات التي يحملها المؤمنون التقليديون في أعماقهم عن تراثهم الديني تبجيلية ولا تاريخية في معظم الأحيان. والعلم الاستشراقي لكي يتوصل الى الصورة الحقيقية للتراث الاسلامي مضطر الى تفكيك هذه التصورات الخيالية التبجيلية الموروثة عن الماضي منذ مئات السنين. ولذلك نشبت المعارك بينهم وبين أقطاب الأصوليين والشيوخ المسلمين.

وبالتالي كفانا محاربة للعلم في العالم العربي والاسلامي كله! كفانا معارضة لحركة التاريخ! التراث الاسلامي سيخضع للمنهجية النقدية التاريخية مثلما حصل للتراث اليهودي – المسيحي. هذا تطور مؤكد لا مفر منه اذا ما أردنا أن نلحق بركب العصر ونخرج من تخلفنا وانحطاطنا التاريخي المزمن. يضاف الى ذلك أن هذه التصورات الخاطئة عن التراث والدين والايمان مكرسة من قبل برامج التعليم والمدارس التقليدية في شتى أنحاء العالم الاسلامي. وهي السبب في تفريخ ملايين المتطرفين والجهاديين الارهابيين. ولا يمكن مواجهة هذه الحركات الا بعد تفكيك تصوراتها اللاهوتية التي تعمر عقولها والتي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ. ومعلوم أن اللاهوت الديني القديم- أو الفقه التكفيري- هو الذي يخلع المشروعية الالهية على هذه الحركات المتطرفة وهو الذي يعطيها ثقة هائلة بالنفس وقوة دفع لا مثيل لها. ولولا ذلك لما تجرأت أصلا على القيام بكل هذه التفجيرات العشوائية التي تحصد المدنيين بالعشرات أو بالمئات أو حتى بالآلاف كما حصل صبيحة 11 سبتمبر. وبالتالي فمكافحتها ينبغي أن تتم على أرضيتها الخاصة بالذات: أي أرضية الفكر الديني والا فلا يمكن التخلص منها ومن وبائها المستفحل الذي أصبح بحجم العالم. ان الاسلام كدين عالمي كبير يستحق مصيرا آخر: انه يستحق نظرة أخرى وفهما تجديديا مستنيرا.

لكن بالمقابل ينبغي على نظرائنا الغربيين أن يعترفوا بأن هذه الأصولية الظلامية كانت موجودة عندهم أيضا. وقد عانت منها أوروبا ما عانته ابان محاكم التفتيش والحروب المذهبية الكاثوليكية – البروتستانتية. ولم تتخلص أوروبا من ارهاب الكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية الا بعد أن ظهر فلاسفة الأنوار وتصدوا لها ولفهمها الخاطيء المتعصب للمسيحية ورسالة الانجيل بكل جرأة وقوة. كل اللاهوت القروسطي الطائفي تم تفكيكه على يد جون لوك وليسنغ وفولتير وروسو وديدرو والموسوعيين وكانط وهيغل ونيتشه الخ..لهذا السبب سقطت المشروعية اللاهوتية القروسطية في الغرب ولم تسقط حتى الآن في العالم العربي أو الاسلامي عموما. لم تظهر عندنا حتى الآن حركة تنويرية ضخمة كتلك التي حصلت في أوروبا ابان القرن الثامن عشر والتاسع عشر.لا ريب في أنه ظهرت محاولات نهضوية تنويرية هنا وهناك ولكنها ليست كافية حتى الآن وليست راديكالية بالشكل المرجو. ولكن المستقبل واعد بالأمل لأن بعض المثقفين في العالم العربي أدركوا خطورة الوضع وأصبحوا يبحثون عن تشخيصات جديدة وحلول. وعليهم تعقد الآمال. قصدت المثقفين النقديين الأحرار لا المثقفين الديماغوجيين الذين يتواطؤن صراحة أو ضمنا مع الفكر الأصولي الطائفي القديم.وعلى الرغم من أن هؤلاء الأخيرين لا يزالون يشكلون أغلبية عددية حتى الآن الا أن مواقعهم تنكشف وتنحسر أكثر فأكثر. فالمثقفون النقديون  المتنورون تتزايد أعدادهم أكثر فأكثر لحسن الحظ في مشرق العالم العربي ومغربه.على أي حال فان المعركة الفكرية بين الطرفين محتومة ولا مفر منها. وهي ذات المعركة التي حصلت بين فولتير وخصومه في القرن الثامن عشر، أو فيكتور هيغو وخصومه وكذلك ارنست رينان وخصومه في القرن التاسع عشر. انها معركة المثقفين التنويريين ضد المثقفين الأصوليين. وكنت قد كرست لها كتابا كاملا فيما سبق[3].

هل نعلم بأن الكنيسة الكاثولية هاجمت المنهجية النقدية التاريخية بنفس العنف الذي هاجم فيه المحافظون العرب الاستشراق؟هنا نلاحظ أن علم الأصوليات المقارنة يقدم لنا اضاءات رائعة. فهجوم شيوخ الاسلام التقليديين على الاستشراق لا يختلف في شيء عن هجوم بابوات الكاثوليك ومنظريهم على ارنست رينان وبقية العلماء الذين طبقوا المنهج التاريخي على المسيحية الأولى وشخصية يسوع. فقد اعتبروا ذلك بمثابة تجديف وكفر وانتهاك للمقدسات المسيحية. وبالتالي فلا ينبغي أن نستنتج خلاصات طائفية أو عنصرية ضد الاسلام والمسلمين بسبب الظرف التاريخي الصعب الذي يعيشونه اليوم. لا ينبغي على المتطرفين في الغرب أن يستغلوا ذلك لتشويه صورتنا وصورة ديننا الحنيف. فالاسلام سوف يغير موقفه عندما تنتصر الحداثة فيه مثلما غيرت الكنيسة الكاثوليكية موقفها بعد الفاتيكان الثاني. المسألة مسألة وقت ليس الا. والمسلمون على الرغم من كل العراقيل سائرون على طريق الاستنارة والتقدم. لنقارن هنا بين ما فعلته السلطات البابوية بالعالم الفرنسي ألفريد لوازي[4] الذي طبق المنهج التاريخي على الانجيل، وبين ما فعله الأزهر وبقية المحافظين بطه حسين بعد صدور كتابه عن الشعر الجاهلي. رد فعل الأصولية الاسلامية على المنهج التاريخي لا يختلف في شيء عن رد فعل الأصولية المسيحية كما ذكرنا في مطلع هذه الدراسة.


[1] انظر نصه الذي نشرته مجلة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية قبل أسابيع من رحيله: ادوارد سعيد: النزعة الانسانية،آخر معقل لنا ضد البربرية.منشورات مجلة لوموند ديبلوماتيك.شهر سبتمبر.2003

Edward W. Said: ‘L’humanisme, dernier rempart contre la barbarie’. Le Monde diplomatique, September 2003.

[2] انظر هجوم شخصيات اسلامية كبرى كالشيخ محمد الغزالي المصري والشيخ مصطفى السباعي السوري على المستشرق الشهير غولدزيهر لأنه طبق المنهج التاريخي- الفيلولوجي على  القرآن والحديث النبوي. فقد اعتبرا ذلك بمثابة عدوان على قداسة التراث ومحاولة للنيل منه.وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية.ولكن حصل هجوم مشابه في نفس الفترة تقريبا أو قبلها بقليل على طه حسين ومحمد حسين هيكل لنفس السبب أو لسبب مشابه.وانظر أيضا هجوم عمر فروخ وأنور الجندي وبنت الشاطيء ومالك بنبي على الاستشراق . وعموما فان مثل هذه الهجمات على الاستشراق في الأوساط التقليدية لا تحصى ولا تعد.بل ووصل الأمر ببعضهم الى حد القول بأن الاستشراق يكمل ما عجزت عنه الحروب الصليبية! وهذا أكبر دليل على مدى خوف المسلمين التقليديين من تطبيق المناهج العلمية والتاريخية على التراث.وهو خوف كان موجودا أيضا لدى الأوساط المسيحية واليهودية التقليدية كما سيرد لاحقا.وبالتالي فالأصوليات الثلاثة من يهودية ومسيحية واسلامية ترفض أن يصل العلم الى ساحة التراث والمقدسات.ينبغي أن يقف على بابها فلا يدخل أبدا..وويلٌ لمن تسول له نفسه بأن ينتهك المحرمات والمقدسات!

[3] انظر: معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا.منشورات دار الساقي بالتعاون مع رابطة العقلانيين العرب.بيروت.2010

[4] Alfred Loisy :1940-1857

هو عالم لاهوت فرنسي كاثوليكي دشن عام 1902 الأزمة الحداثية مع الكنيسة الكاثوليكية بسبب تطبيقه للمنهج التاريخي على الكتاب المقدس بكلا نسختيه العهد القديم والعهد الجديد أي التوراة والانجيل.وقد اعتبر الفاتيكان ذلك بمثابة فضيحة لا تحتمل وخروجا على الايمان المسيحي الصحيح.ولذلك كفروه ونبذوه وفصلوه من سلك التعليم عام 1908. ولكن المجمع التحريري للفاتيكان الثاني أعاد له الاعتبار عام 1965 واعترف بالخطأ الذي ارتكبته الكنيسة بحقه. وهكذا انتصر بعد موته بربع قرن فقط..فمتى سيفهم المسلمون التقليديون أن المنهج التاريخي سوف يطبق على نصوصنا المقدسة أيضا طال الزمن أم قصر؟ ولن يقضي على الايمان بالضرورة لأن ألفريد لوازي ظل مؤمنا ولم يصبح ملحدا بعد انخراطه في البحث التاريخي عن أصول الانجيل والتوراة.وذلك لأن العلم التاريخي ينقلنا من الايمان القديم الضيق المتعصب الى الايمان الجديد الحر الواسع.

إدوارد سعيد: نبذ هجومه السابق على الاستشراق

إرنست رينان: هاجمه البابا لتطبيقه المنهج التاريخي
ثيودور نولديك: مكافح في المعركة
الفكرية مع الأصوليين