القرآن كنص حضاري, أراد تحويل العرب من مجتمعات شفاهية إلى مجتمعات كتابية وهو لذلك استهل خطابه بكلمة “اقرأ”. لكن الخطاب الجمعي لهذه المجتمعات عبَّر عن رفضه لهذا التحول. وما حدث لاحقاً هو تكييف الإسلام الحضاري لصالح العادات والتقاليد البدوية.
بقلم: رياض حمَّادي
أكثر ما يميز “الشعوب البدائية” أو التي يقال عنها إنها “بلا تاريخ” هو علاقة اللاوعي التي تشدها إلى مؤسساتها وعاداتها الجماعية. والمجتمعات الشفاهية, وفقا لليفي ستراوس, تتميز ببنيتها اللاشعورية, والفكر الذي تصدر عنه هذه الجماعات هو “فكر جماعي”, في حين أن المجتمعات الكتابية تمارس فكراً نقدياً (1).
هل هذا يعني أن المجتمعات العربية والإسلامية مازالت بدائية, حيث الثقافة الشفاهية مازالت تحظى بالتمجيد على حساب الثقافة المكتوبة, أو أن تدني مستوى القراءة والإنتاج الثقافي يجعلهم مجتمعات شفاهية. وهل لخطاب القرآن لليهود والنصارى بصفة “أهل الكتاب” علاقة بهذه المسألة؟ وهل يمكن تفسير الفاصل الحضاري الذي عرفه المسلمون إلا في ضوء الهجرة نحو الكتاب تأليفاً وترجمة, وارتباط النهضة و الحضارة الأوروبية إلا من خلال العلاقة الحميمة والمستمرة معه ؟!
ما يلي نموذج لموقف العرب من الكتابة والتدوين :
جاء على لسان سفيان الثوري أنه قال : “ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني” وعلى لسان سفيان أيضاً : “بئس مستودع القراطيس” وعلى لسان الأوزاعي : “كان هذا العلم شيئاً شريفاً , إذ كان من أفواه الرجال يتلاقونه ويتذاكرونه , فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله”.
وما يجعل لهذه الأقوال الماضية قيمة حاضرة هو ممارستها فعلاً على نطاق واسع في وقتنا الراهن.
القرآن كنص حضاري , أراد تحويل العرب من مجتمعات شفاهية إلى مجتمعات كتابية وهو لذلك استهل خطابه بكلمة “اقرأ”. لكن الخطاب الجمعي لهذه المجتمعات عبَّر عن رفضه لهذا التحول من خلال اختلاق حكاية “ما أنا بقارئ” – على لسان محمد رداً على الملاك جبريل الذي أمره بالقراءة في غار حراء – وهي حكاية أُريدَ من خلالها الإشارة إلى أن النبوة فُرضت على محمد من الخارج. ثم من خلال ترويج أمية النبي محمد التي أرادوا من خلالها الإشارة الواعية إلى الإعجاز لكن التأكيد اللاواعي عن رفضهم القراءة, أي رفض التحول الحضاري إلى أمة كتابية.
نزول القرآن بلسان عربي لا يجعله حبيس المنطقة العربية, فقيمة القرآن ليست في أبجديته العربية وإنما في ما يتضمنه من قيم حضارية. وهو لا يمكن أن يكون رسالة للعالمين إلا لربطه العالم بقيم حضارية واحدة قبل أن يربطهم عقائدياً بإله واحد. وهذا ما سعى إليه القرآن من خلال مضمونه الحضاري حين حاول إخراج العرب من ظلمات البداوة المحلية إلى نور الحضارة العالمية.
تأكيدهم اللاواعي كان رفضهم القراءة
القيم الحضارية في الميادين الاجتماعية والأخلاقية والمدنية لم يخترعها القرآن ولم يأت بها من خارج هذا العالم وإنما هي مستلهمة من تأثر الرسول بالحضارات الأخرى. ولأن العرب يمقتون الأفكار المستوردة التي ليس لها أصل عندهم لذلك ردوها دون النظر إلى قيمتها إيجابية كانت أم سلبية. ولذلك فرّغوا الإسلام من مضامينه الحضارية واكتفوا بطقوسه ومظاهره, أي أن ما حدث لاحقاً هو تكييف الإسلام الحضاري لصالح العادات والتقاليد البدوية.
ولأن القيم الحضارية الإسلامية لم تكن جديدة أو غريبة على القوميات غير العربية التي دخلت في الإسلام – فهي بضاعتهم رُدت إليهم – من هنا كانت استجابتهم لها ومساهمتهم في بناء الحضارة الإسلامية جاءت من واقع الخبرة والمعرفة بِأُسس بناء الحضارة, فكانت مساهمتهم عملية وإن من خلال دافع جديد هو الإسلام. بينما حلّت تلك القيم على مجتمع الصحراء العربية كقيم دخيلة سرعان ما تم لفظها, لأن مفهوم الحضارة جديد وغريب ولم يألفوه من قبل فكان إسهامهم فيها ضئيلاً.
تقيد العربي بالمظهر على حساب الجوهر يمكن أن يكون هو السبب الذي من أجله أطلق القرآن اسم “الجاهلية” على الفترة التي سبقت الإسلام, بالرغم من المظهر المشرق للتراث الأدبي العربي حينها. صفة “الجاهلية” التي ألصقها الإسلام بالعصر الذي سبقه لم تكن صفة تحقيرية بقدر ما كانت تقريرية تفيد في وجهها الظاهر تعلق الناس بالأصنام وفي جوهرها تعبر عن غياب الفكر العميق والخلاق.
“فإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية, فإن الجهل في حقيقته وثنية, لأنه لا يغرس أفكاراً بل ينصب أصناماً, وهذا هو شأن الجاهلية. فعندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم” (2).
والحال أن فكرة الصنمية والأصنام لا تزال تعشش في ذهن ووجدان أغلب العرب والمسلمين لدرجة ارتباط فكرة التغيير بالبطل القومي أو المخلص السماوي.
القرآن في نقده للأعراب كان أشد قسوة من نقده لأهل الكتاب – اليهود والنصارى, فقد كان واعيا لعقلية الأعراب المتحجرة العصية على التغيير لذلك وصفها في أكثر من آية بالقساوة والجفاء والبعد عن العلم. يمكن القول اختصاراً أن الإسلام كان محاولة أولية مبكرة لعلمنة العرب ولإلباسهم ثوب الحضارة, لكن لأن العادة أقوى من الدين فقد باءت تلك المحاولة بالإخفاق بحجج متجددة مثل “الخصوصية” و “الأصالة” و “الثوابت”. والنتيجة المنظورة , بعد استثناء الفاصل الحضاري وتراثه العريق, هي فشل الكتاب – القرآن – في تحويل العرب من مجتمعات شفاهية إلى مجتمعات كتابية .
هجرة الإسلام من بيئته العربية إلى غير العربية واعتناقه من قبل وارثي الحضارة هناك جعل الإسلام عامل نجاح في نفخ روح الحضارة. ولعل في هذا دليل على أن العيب ليس في الإسلام مثله في ذلك مثل بقية الأديان القائمة على أساس من خطاب الوجدان للوجدان أكثر من اعتماد نصوصها على البرهان أو لغة العقل الفلسفي.
الإسلام كان محاولة أولية مبكرة لعلمنة العرب
بُنية النصوص الدينية على هذا الأساس هو ما يجعلها حمالة أوجه وبالتالي قبولها للحمولات الفلسفية – التي ينتجها العقل اللاهوتي أو العقل الفلسفي – شريطة أن تتحلى بالحياد والتسامح والتعددية وأن تتخلى عن مفهوم تسنين العقيدة القويمة, فهذه الأخيرة لا تقبل فلسفة من خارجها ولا تفرز فلسفة من داخلها ما لم تحقق تلك الشروط . والخلاصة أن الديانات , اليهودية والمسيحية والإسلامية , تشترك في عدائها للفلسفة في الوقت الذي تسمح بالمصالحة معها. وعلى هدف المصالحة وكيفيتها ينبغي أن يدور النقاش.
يعطي المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي للعامل الجغرافي دوراً أساسياً في تفسير الحضارة انطلاقاً من مذهب “التحدي” الذي يفسر الحضارة كرد فعل معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس مواجهة لتحد معين. والجغرافيا هي التي تقوم بهذا التحدي, وحسب مستوى التحدي وفعالية الرد عليه فإن الحضارة تكون بين ثلاثة احتمالات : إما أن تقوم بوثبة إلى الأمام , وإما أن تصاب بالجمود , وإما أن يصيبها الفناء (3) .
وهناك فلسفة للتاريخ تنظر إلى الحضارات على هيئة دورات تعقب إحداها الأخرى ظهوراً وزوالاً. هذه الفكرة عبّر عنها ابن خلدون, وهي قريبة من فكرة هجرة الحضارات عند مالك بن نبي وهادي العلوي. فقد شبه بن نبي هجرة الحضارة وانتقالها في المكان بشروق الشمس وغروبها, لكنه بهذا التشبيه جعل من الحضارة قدراً إلهياً لا يد للإنسان في التحكم فيه.
مواضيع قد تهمك
وفي ذات السياق , يقول المفكر العراقي هادي العلوي, بانتقال الحضارات في المكان لا بسقوطها وذلك لأسباب تتعلق بعلاقة الحضارة بالفلسفة والفيلسوف . يقول هادي العلوي :
“الحضارات لا تسقط وإنما تنتقل في المكان .. إنّ ما يسمونه سقوط الحضارة هو توقفها في المكان الذي نشأتْ فيه وتحرّكها إلى مكان آخر .. فلمّا توقّف مدُّ الحضارة الإسلامية كانتْ منجزاتها قد انتقلتْ إلى أوربا , وبينما نَسيَ المسلمون علماءهم وفلاسفتهم كان الأوربيون يَدْرسونهم ويطوّرونهم, وبينما كان المثقّف الأوربي يتباهى بالانتساب إلى ابن رشد كان ابن رشد شبه مجهول في العصر العثماني. وهكذا لم تسقط حضارة الإسلام ولم تفشل وإنما انتقلَتْ”.
ما يؤكد فكرة الهجرة – بمعناها العقلي والتاريخي قبل الجغرافي– وإسهامها في النهضة, هو أن الانقلاب في التاريخ يوازيه انقلاب في الجغرافيا, فالعالم المسيحي “الذي انحسر غرباً مع سقوط القسطنطينية , أقلع باتجاه التقدم .. والعالم الإسلامي, الذي انحسر شرقاً مع سقوط الأندلس, ألقى مرساته في مستنقع التخلف”. لكن تقدم العالم المسيحي لم يحدث بسبب من الانقلاب الجغرافي فقط, بل الأهم بسبب “فتح أسواره ابتداء من القرن الثاني عشر أمام اللاهوت ثم أمام الفلسفة”. مثلما أن تخلف العالم الإسلامي حدث بعد أن “طرد خارج أسواره الفلسفة أولاً ثم علم الكلام” . وهنا يكون التقدم والتخلف عملية استلام وتسليم تم بواسطة الفلسفة
“فالعالم الإسلامي الذي تخلى عن الفلسفة أسلم وديعتها للعالم المسيحي” (4).
________________________..
- جورج طرابيشي , إشكاليات العقل العربي , ص 288 – 289
- مالك بن نبي , شروط النهضة , ص 56
- السابق , ص 101
- جورج طرابيشي , مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام , ص 122