هل نصوص القرآن التي أمرت بقتال المشركين وأهل الكتاب(اليهود والمسيحيين)، واباحت ملك اليمين(الرق) تخاطب واقعا تاريخيا مخصوصا أم انها عابرة للأزمان ويجب تطبيقها حرفيا في عصرنا هذا؟.

بقلم: رشا عوض


المسلم المتدين البسيط يفهم ان دينه يأمر بكل ما هو خيِّر وجميل ورحيم، وينهى عن كل ما هو شرِّير وقبيح وقاسي، لذلك عندما يرى بشرا تقطع رؤوسهم، او يرجمون بالحجارة حتى الموت، ونساء يتم بيعهن في أسواق النخاسة ويتم توزيعهن مثل أي غنائم على الجنود، وبشر يُقتلون او يُضطهدون لمجرد انهم على دين آخر او حتى إذا كانوا مسلمين لهم آراء مخالفة، وبشرا يجلدون بالسياط وآخرين تقطع أيديهم وأرجلهم في الساحات العامة وآخرين يحرقون أحياء، أو عندما يسمع شيخا يسمونه “عالما وفقيها” يأمر الناس بطاعة حاكم فاسد وظالم أهلك شعبه تعذيبا وقتلا وتجويعا وإفقارا ويتوعدهم بغضب الله ان هم خرجوا في مظاهرة ضده! ويقول لهم: طاعة هذا الحاكم عبادة لله! أو عندما يرى طفلة تزوج في سن التاسعة! أو عندما يرى فؤوسا تهوي على المتاحف مدمرة ما فيها من تماثيل وقطع أثرية باعتبارها أصناما!

عندما يرى شيئا من كل هذه الأفعال الفظيعة التي يشمئز منها وجدانه تلقائيا دونما حاجة لأي تحريض، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويقول بوثوقية إيمانية فطرية: الإسلام لم يأمر بذلك!!

ولكن التحدي الكبير الذي يواجه المسلمين الخيرين الغاضبين من ممارسة هذه الفظائع باسم دينهم، هو ان من يمارسونها يقولون بذات الوثوقية الإيمانية: إن الإسلام أمر بذلك!! ويأتون بأدلة من القرآن ومن صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الأحاديث الموصوفة ب”الصحاح” مستدلين بها على شرعية أفعالهم وفق مناهج فقهية وتفاسير للقرآن هي جزء لا يتجزأ من “تراث إسلامي” تحيط به قدسية مزعومة.

خطر خصائص هذا “العقل الإسلاموي” هي “الماضوية“

ولذلك نجد كثيرا من المسلمين الذين تعلموا تعليما حديثا ولم ينتظموا في جماعات سلفية تلقنهم ذلك” الجزء المظلم من التراث” الذي تنطلق منه “داعش واخواتها” خاضعين له بصورة لا واعية! لأن هناك “نمط تفكير إسلاموي” تسلل الى عقولهم من خطاب أئمة المساجد والوعاظ وجماعات “الإسلام السياسي”، ذلك النمط من التفكير هو ما اصطلح على تسميته في الدراسات الإسلامية الحديثة “العقل الإسلاموي”، وهو عقل النقل والتقليد والاتباع الذي ظل مهيمنا على المسلمين لعشرة قرون تقريبا، ولا يتسع المقام هنا للتفصيل في الملابسات التاريخية التي أدت إلى انحسار التوجهات العقلانية في الأمة الاسلامية(على سبيل المثال أفكار الفيلسوف المسلم ابن رشد(1126م-1198) ، وهزيمتها بشكل كبير، وتسيُّد “العقل السلفي”، المهم ان هذه حقيقة تاريخية ماثلة، نتيجتها أن عامة المسلمين اليوم، وبدرجات متفاوتة، واقعون تحت سيطرة عقل خصائصه هي: تعطيل الحس التاريخي بشكل كامل في التعامل مع بعض نصوص القرآن، التسليم والإذعان التام لتفاسير معينة للقرآن، و لروايات بعينها للحديث النبوي، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي واستنكار مجرد التساؤل حول صحة ومصداقية تلك التفاسير والروايات البشرية لدرجة انها أضحت مماثلة للقرآن في القدسية ان لم تكن أكثر منه قدسية!، والاعتقاد الجازم بأن إخلاص المسلم لعقيدته وتجسيده لتعاليم الإسلام لا يتحقق إلا بتقليد أعمى لما فعله قوم عاشوا قبل أكثر من أربعة عشر قرنا اسمهم “الصحابة” أو “السلف الصالح” مع تجاهل المتغيرات التاريخية!

لا سبيل لنهضة في المجتمعات المسلمة دون رد الاعتبار للفلسفة وللعقلانية

 وأخطر خصائص هذا “العقل الإسلاموي” ،هي “الماضوية”، فنموذج الصلاح والفلاح في الماضي وليس في المستقبل!

يجب ان نتمسك بوصف ذلك العقل بأنه “عقل إسلاموي” وليس”عقل إسلامي”، لأن المصطلح الأول معناه ان منهج التفكير الناتج عن هذا العقل هو مجرد توجه آيدولوجي يربط نفسه بالإسلام، ولا يمتلك شرعية تمثيل الإسلام بالمطلق، أما المصطلح الثاني فيدل على ان هناك ارتباط حتمي بين الإسلام كدين، وذلك العقل المنغلق، وهذا غير صحيح من وجهة نظري، فهناك مسلمون عقلانيون، فهموا الإسلام على أنه رسالة رحمة وعدالة وتسامح، وانطلاقا من استلهامهم لمقاصد وأخلاق الإسلام أثبتوا ان “الإسلام الصحيح” يقتضي مكافحة الإرهاب والتخلف، لا الانخراط فيهما وتمجيدهما كما تفعل”داعش”

ما أود ان أخلص إليه هو ان “داعش وأخواتها” أنتجها “نمط تفكير تقليدي” تحكم في بلاد المسلمين طويلا ومارس القمع والإقصاء على أنماط أخرى من “التفكير المستنير، العقلاني والإنساني”، وأهم شرط للانتصار على “داعش وأخواتها” هو تأسيس مشروع للاستنارة والعقلانية الإسلامية، لا يكتفي برفع حاجب الدهشة أمام ما تفعله “داعش” أو ما فعلته قبلها “طالبان” و”القاعدة” بل يتجاوز ذلك إلى نقد”الفكر التقليدي” الذي تنطلق منه بصرامة ووضوح، وبلورة “فكر بديل” منحاز للسلام والحرية والتسامح، وهذا ليس بالأمر السهل إذا أخذنا في الاعتبار أن “الفكر التقليدي” مسنود بمؤسسات تعليمية وقوى اجتماعية وسياسية وله مكانة عاطفية في نفوس الجماهير.

صحيح الإسلام لم يأمر بما نراه من الإرهاب والتخلف الذي يمارس باسمه، ولكن التحدي أمامنا هو أن نثبت ذلك بمنطق قوي يهزم “داعش وأخواتها” فكريا وأخلاقيا ويجردها من مشروعيتها أمام عامة المسلمين.

ولن يتحقق ذلك إلا بتكريس “نمط تفكير” جديد لا يتهرب من الأسئلة الصعبة، ومنها على سبيل المثال:

هل نصوص القرآن التي أمرت بقتال المشركين وأهل الكتاب(اليهود والمسيحيين)، واباحت ملك اليمين(الرق) تخاطب واقعا تاريخيا مخصوصا أم انها عابرة للأزمان ويجب تطبيقها حرفيا في عصرنا هذا؟ هل يجب على المسلمين الإيمان بأن كل ما ورد في “صحيح البخاري” مثلا ،هو أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ام ان هذا الكتاب الذي كتب بعد وفاة النبي بأكثر من مائتي عام، مجرد جهد بشري، شأنه شأن كل كتب الحديث والفقه والسيرة، تسربت إليه أقوال ومفاهيم من البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة، ومن المشروع جدا نقده، ورفض ما فيه من أمور تتعارض مع العقل وأحيانا تتناقض مع القرآن نفسه؟

هل يجب على المسلمين الآن تقليد كل ما فعله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل أكثر من 1400 عام؟ أم أن واجبهم هو فقط الإيمان بالمحتوى الروحي والأخلاقي للإسلام وإدراك مقاصده الكلية، أما اجتهادات “الصحابة” فليست مرجعية ملزمة للمسلمين على مر العصور لأنهم بشر فهموا الإسلام وطبقوه وفق معطيات واقعهم التاريخي، وانهم في إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية جسدوا خبرات ومعارف عصرهم ولم يجسدوا الإسلام إلا ممزوجا بتلك الخبرات والمعارف التي تخصهم ولا تخصنا! ولذلك فيما يتعلق بالمعاملات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لهم إسلامهم ولنا إسلامنا؟

ان التهرب من إجابات منهجية على مثل هذه التساؤلات سبب أساسي في كل ما نراه من أهوال تنتسب للإسلام دون وجه حق.

” الإسلام لم يأمر بالإرهاب وبث الكراهية ومعاداة الحرية والتقدم” هذه الفرضية الصحيحة والنبيلة  يجب ان تكون نقطة انطلاق إلى عملية تأسيس”نمط تفكير” جديد يتعاطى به المسلمون مع دينهم ومع تاريخهم، وتأسيس “فلسفة تدين” جديدة تجعل عقل المسلم المتدين مشغولا على الدوام باستكشاف المعاني والقيم الكلية للإسلام، بالبحث عن الغايات والمقاصد النهائية للإسلام، باستخلاص المضامين الروحية والأخلاقية للإسلام، بدلا من الغرق في الأحكام الفقهية الجزئية، ومحاولات استنساخ واقع تاريخي بتفاصيله الظرفية.

لقد كانت “هزيمة الفلسفة” و”هزيمة العقلانية” أكبر كارثة في تاريخ المسلمين الحضاري، ولا سبيل لنهضة في المجتمعات المسلمة دون رد الاعتبار للفلسفة وللعقلانية، وهذا بدوره لا يتحقق دون مخاض استنارة شجاعة تواجه المأزق الفكري والحضاري الذي يعاني منه “المسلم الخير” مواجهة منهجية، لأن القفز على هذا “المأزق” والتهرب من أسئلته الصعبة معناه أن “داعش” وإن هزمت عسكريا سوف تنبعث من جديد!