إن أساليب الطبطبة على أكتاف الزعماء السياسيين والدينيين في العالم الإسلامي والإدعاء بأن ما يحدث الآن ليس له علاقة بالإسلام (ويقصدون، كما أوضحنا، الإسلام في شكله السلفي) سيعظّم فرص المتطرفين والإرهابيين أكثر فأكثر في تحقيق أهدافهم.
بقلم: جمال عبد الرحيم عربي
أصبح من عاديات الأحداث الراهنة المرتبطة بالعمليات الإرهابية التي يقوم بها المسلمون المتطرفون، أن يصرّح قادة السياسة والرأي في الشرق والغرب، بمن فيهم رؤساء بحجم الرئيس أوباما ورجال دين بمستوى بابا الفاتيكان وهيئة كبار العلماء الدينين بالسعودية والأزهر بمصر؛ يصرّحون بأن هذه الأعمال ليست من الإسلام ولا تعبّر عنه، وإنما هي ممارسات لفئة محدودة من الأشرار لا يعبّرون عن الدين الإسلامي بأي حال من الأحوال. وهو قول غضّ النظر عن صحته من عدمها، مضلّل للغاية؛ لأنه يترك المسئولية معلّقة في أعناق أفراد محدودين من ذوي النوايا الشريرة وكأن نواياهم هذه ناتجة عن خلل جيني أو نزعة إجرامية أملتها ظروف شخصية متعلقة بالتربية والوضع الإجتماعي والظرف الاقتصادي لهم! لذا ينشد هذا المقال، مناقشة الأسباب المسئولة حقيقة عن بروز التطرف والإرهاب؛ حيث من الخطورة البالغة إهدار الموارد، وإرباك المسيرة الصاعدة للبشرية، تلك التي زادت وتيرتها بعد الحرب العالمية الثانية في اتجاه الارتقاء بالنظام المعرفي والقيمي للإنسانية، بمحاربة أعراض العلّة عوضاً عن اجتثاث الجذور المنتجة لها.
ينظر هذا المقال إلى الدين، أي دين، باعتبار أنه يتشكل من ثلاثة مكونات رئيسية، هي التي تحدد معالمه المميزة: مجموعة النصوص المقدسة التي تحتوي على طائفة من التعاليم الواجبة الاتباع والاحترام من قِبَل المُعتَقِدين فيه، والتفسيرات والتأويلات لتلك النصوص التي أنتجها أتباعه؛ هذا إضافة للممارسات التي يقوم بها المؤمنون به في سبيل تطبيق تعاليم ذلك الدين.
وحيث أن النصوص ثابتة بطبعها، بينما الممارسات تستند على فهم المؤمنين لتلك النصوص، لذا نعتبر عمليتي التفسير والتأويل للنصوص هما الأكثر أهمية في إعطاء الدين سماته التي تميّزه عن غيره. كما نعتبرهما الأكثر خطورة حيث إنهما تصنعان المنتوج الملموس، المؤثر على حياة الناس. من الأهمية الإشارة، إلى أن عمليات التفسير والتأويل هذه، إنما هي عمليات عقلية محضة تتم بواسطة بشر يتفاوتون ويختلفون كثيراً في طريقة تفكيرهم التي تلعب في تحديدها وصياغتها عوامل ومؤثرات كثيرة، كالبيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة، درجة التطور العلمي والمعرفي، بالإضافة للمقدرات والسمات الشخصية للمُفسِّر أو المؤوِّل.
وفقاً لذلك، يمكننا التقرير ببساطة بأنه لا يوجد دين في حالة ثبات، ووضوح للمعالم، واتفاق على المفاهيم، بشكل يمكن أن نُضمِّنه في وعاء مقرؤ أو مسموع نشير اليه باعتباره المرجع له؛ كأن نقول إقرأ الكتاب الفلاني إذا أردت معرفة الإسلام أو أرجع للشخص العِلاّني ليوضح لك ما هو الإسلام. فالإسلام، كدين مثلاً، له نكهات لا متناهية تقريباً. فزيادة على تقسيماته الرئيسية التي تستند على تفسير وتأويل النصوص المؤسِّسَة، كالإسلام السني والشيعي والصوفي، توجد مذاهب ومدارس أدنى تنقسم هي ذاتها بشكل يكاد أن يصل لمرحلة أن يكون لكل فرد إسلامه الخاص! وهذا وضع يتسق مع حقيقة أنه حتى القرآن الكريم، وهو الكتاب الوحيد المتفق على كماله من قِبَل جميع المسلمين، له تفاسير وتأويلات لنصوصه بقدر تعدد مذاهبهم الكثيرة جداً.
لقد أصبح من المعتاد للقيادة السياسية وصناع الرأي الادعاء بأن هذه الأعمال لا علاقة لها بالإسلام ولا تمثله
وفق هذا الفهم يصعب، بل يستحيل، أن نزعم أن هذا الدين جيِّدٌ أو ذاك الآخر سيّءٌ ما لم نربطه بلحظة تاريخية بعينها للنظر إليه من خلالها، ونقيم ملاءمته لتلك اللحظة وفقاً لفرضياتها ومتغيراتها؛ وما لم نحدد التفسير والفهم المستهدّف مناقشته والتعرُّض إليه. وبمثلما نتهم مسيحية القرون الوسطى بالمسئولية عن قهر الناس والتدخل الفظ في حياتهم، فإننا نحترم مسيحية اليوم لأنها تعمل على مساعدة المعتنق لها على نيل الرضا لذاته بهدوء وبدون التعرض للآخرين، وذلك بدون أن نحمّل مسيحية اليوم أوزار سابقتها. باستخدام نفس المنطق فإنه بمثلما نتّهم الفهم السلفي للدين، السائد في العالم الإسلامي اليوم، بالمسئولية عن إغراق العالم بالقتل والترويع، فإن القواعد المؤسِّسة لذات الفهم كانت رحيمة، في زمانها، أبان الدولة الإسلامية الأولى، حيث نجحت في القضاء على ظاهرة الشرذمة والتناحر القبلي البدائي في الجزيرة العربية إلى مستوى أرقى قياساً بما كانت عليه في ذاك الزمان.
إن الفهم السائد والمسيطر في الدول والمجتمعات الإسلامية اليوم هو الفهم السلفي بشقّيه السني والشيعي، علماً بأننا سنتعرض في ورقتنا هذه للشق السنّي فقط. فالثابت أنه رغم تنوع وتعدد مدارس ذلك الإسلام السلفي السني الرئيسية والفرعية وتشعبها، فإنها تلتقي في الكثير جداً من المفاهيم الأساسية؛ مما يسمح للباحث بالتعامل معها كفكرة واحدة عند تناول علاقة الدين الإسلامي في شكله السني السلفي بالحياة. نقاط الالتقاء بين هذه المدارس والمذاهب يمكن أن نجملها في الآتي:
- يحتوي الدين، إضافة لكونه منظومة اعتقاد لتفسير قضية الوجود وعلاقة الإنسان بما حوله، على منظومة متكاملة من الأوامر والنواهي، أي أحكام بعبارة أخرى، مضمّنة في القرآن وكتب الحديث النبوي كفيلة بالتعامل مع كل ما تطرحه الحياة من قضايا وتحدّيات وفي كل المجالات تقريباً: المجتمع، الاقتصاد، القانون، السياسة، وحتى العلم الطبيعي والطّب.
- الاجتهاد هو المورد الآخر للأحكام لمعالجة الأوضاع التي لم يرد بها نص، أو لتفصيل وتوضيح تلك المنصوص عنها. تستخدم في عملية الاجتهاد، لاستنباط الأحكام، مجموعة من الآليات على رأسها الإجماع والقياس؛ كما تستند عملية الاجتهاد على مجموعة من القواعد كقاعدة “لا اجتهاد في ما فيه نص”، قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، قاعدة “العبرة بعمومية اللفظ وليس خصوصية السبب”، قاعدة “المعلوم من الدين بالضرورة”، إلخ.
- التفسير والاجتهاد يعتبران مسائل فنية بحتة متاح الخوض فيها فقط لخريجي المؤسسات التعليمية الدينية التقليدية، ومسموح بإجرائهما تحت شروط تضمن اتساقهما مع ما ورد في النقطة السابقة.
والحال كذلك، نرى أن هنالك استحالة في قبول فكرة الفصل بين الإسلام السلفي المسيطر والمظاهر السالبة المنسوبة للدين الإسلامي بما في ذلك ظواهر التطرف والإرهاب والتخلف الواضح في معظم مناحي الحياة لدى المجتمع المسلم. والسبب بسيط، ولكنه جوهري، وهو أن الجماعات المتطرفة والإرهابية إنما تستند على ذات المداخل المفتاحية الثلاثة أعلاه، والتي تعتبر بمثابة القلب لما أطلق عليه علم أصول الدين، في صياغة خطابها الفكري وخطها السياسي والتنظيمي.
هذه المفاهيم الثلاثة الصلدة، مثلما يستلهم منها الدعاة السعوديون والأزهريون وغيرهم الأقوال والأفعال التي تعمل على الحط من قدر المرأة والتعامل مع عقلها باعتباره ناقصاً، وجسدها باعتباره عورة لدرجة حرمانها من قيادة السيارة في المملكة السعودية؛ يستلهم منها أيضاً الإرهابيون المفاهيم الخاصة بتكفير الآخر المختلف وإهدار دمه. ومثلما يعتمد عليها، أي تلك المفاهيم الثلاثة، الدعاة السلفيون في منع خروج الناس على حكامهم الطغاة، كذلك يعتمد عليها الإرهابيون في تبرير إنشائهم لدولة الخلافة واستخدامهم لأسلوب الرعب في ممارستهم السياسية!
عليه تصبح المعادلة الصحيحة أنه ما دام دعاة الإسلام السلفي يصرّون بمختلف مدارسه على حاكمية الأقطاب (pillars) الثلاثة أعلاه، باعتبارها تمثّل أصول بناء الخطاب الإسلامي، يصبح عليهم القبول، ليكونوا منسجمين مع أنفسهم وأفكارهم؛ القبول باتهام الآخرين بأن الإسلام (وهم يقصدون الشكل السلفي له) هو المسئول عن التطرف والإرهاب، كما أن عليهم الاعتراف بأنهم يقفون مع المتطرفين في منصة واحدة رغم الاختلاف الشكلي في الأهداف والوسائل السياسية للطرفين!
نعتبر عمليتي التفسير والتأويل للنصوص هما الأكثر أهمية في إعطاء الدين سماته التي تميّزه عن غيره
يميل كثير من قادة الرأي والسياسيون في الغرب في محاولاتهم لكبح جماح التطرف المضاد والمتعاظم لديهم والذي خلقه التطرف الإسلاموي ـــ وأيضاً لمثلهم الأخلاقية الناتجة عن التربية الإجتماعية والسياسية التي تنزع نحو أنسنة الحياة بشكل عام ونزع ما من شأنه خلق الكراهية بين الناس ـــ إلى أن هؤلاء الإرهابيين الذين يزرعون الدمار الآن في كل بقعة من هذا الكوكب إنما هم مجموعة أشرار لا يجمعهم جامع بديانتهم. وأن الإسلام السلفي الذي تتبناه الجماعات الإسلامية الغالبة في العالم الإسلامي، والموجودة في العالم الغربي أيضاً؛ وتعبّر عنه المؤسسات الرسمية كهيئة كبار علماء السعودية ومؤسسة الأزهر بمصر وغيرها، والفقهاء والدعاة الذين تربوا في كنفها، بريء تماماً مما يفعلون.
في زعمنا أن هذا الرأي فطير ومضلل لأنه فشل في تحديد جذور التطرف والإرهاب الذي أصبح يهدد حتى المقاهي في أي بقعة في عالمنا الفسيح! هذا رأي غفل عن إدراك الحقيقة الظاهرة، أو السعي لمعرفتها، مدفوعاً بخوف مستبطن بأن الإعلان عنها سيفجّر غضب المسلمين ويدفعهم أكثر في العداء للحداثة والغرب، بدون اعتبار لحقيقة أن الثمن الحقيقي لهذا الفشل ولتلك الغفلة لن يؤدي إلا إلى نمو التطرف والتطرف المضاد. كما سيدعم للأسف التوجهات القائمة على الكراهية والتراجع عن أعظم قيم الإنسانية وسط المجتمعات المتقدمة التي اجتهدت كثيراً، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، في إرسائها ونشرها؛ قيم المساواة والتكافؤ والسلم والحريات العامة والفردية.
إن أساليب الطبطبة على أكتاف الزعماء السياسيين والدينيين في العالم الإسلامي والإدعاء بأن ما يحدث الآن ليس له علاقة بالإسلام (ويقصدون، كما أوضحنا، الإسلام في شكله السلفي) سيعظّم فرص المتطرفين والإرهابيين أكثر فأكثر في تحقيق أهدافهم، حيث سيظل الأساس الفكري الذي يمثل ماكينة التفريخ للتطرف والإرهاب الإسلامويين قائماً وفاعلاً وقوياً ومؤثراً. بل إن استمرار التطرف والإرهاب الإسلاموي الذي يتصف باستسهال الموت والتنفيس عن العقد النفسية الحادة عبر تفريغ شحن الرصاص في أجساد أكبر عدد من سيئ الحظ، أصبح ملهماً وحافزاً لدى المنحرفين وسط الغربيين من غير المسلمين ليميلوا نحو القتل الجماعي بدلاً عن الانتحار الفردي مثلما يعكس الإعلام اليوم. بل وربما يسوء الأمر أكثر إذا تبنّت مجموعات سياسية نفس النهج في تعاملها مع خصومها باعتبار أنه وسيلة ناجعة لتحقيق الأهداف.
إذن، فإن الخطر الآن ليس الإرهاب لوحده، بل نضيف إليه البُعد الآخر الذي لا يقل خطراً عنه وهو النكوص الذي بدأت تشهده الدول الليبرالية المتقدمة من تراجع ظاهر ومستتر عن القيم الرفيعة التي بلغتها. تلك القيم التي كانت تتطلع الإنسانية لأن تبلغ مدىً أقصى مما بلغته لتستطيع تحقيق وتثبيت مبدأ السيادة للشعوب وليس للطغاة، والمساهمة في تحرير الشعوب المسلوبة الإرادة بسبب القهر الشديد من قِبل طغاة السياسة والفكر، وذلك لتنضم لبقية الأسرة الإنسانية في تعمير هذا الكوكب مادياً و أخلاقياً. وما هذا النكوص إلا بسبب الفشل في تحديد أسباب الظاهرة مما جعل الشعور العام في الغرب ينحدر بشدة نحو التضييق على من يُعتَقَد أنهم يهددون وجوده نفسه، ناهيك عن قيمه، وهم بؤساء المسلمين الهاربين من ضنك العيش والإستبداد وقلّة الحيلة في بلادهم الأصلية وكل ما يحتاجونه الكرامة ووسائل كسب العيش الكريم. لا ينفي هذا وجود من هو وسطهم ممن يمكن أن يتحول لقوة سالبة أو مُدمّرة خاصة في وجود المساجد والمراكز الإسلامية التي يتم إدارتها من قِبَل الإسلاميين السلفيين، الناشطين وسط الشباب بالذات، تحت سمع الحكومات وبصرها. بيد أننا نعتقد أن لجم النشاط السلفي وتحجيمه، مع وجود برامج تنوير منهجية ووسائط إعلام مقتدر من المفترض أن تغير الصورة بشكل إيجابي يمكن أن تؤثر هي ذاتها في تحسين الوضع في أوطانهم الأصلية.
مواضيع قد تهمك
إن الراصد لموقف وردود فعل القيادات السياسية في الغرب والشرق الأوسط يلحظ كثيراً من العزم على القضاء على داعش عقب كل عملية إرهابية وكأن داعش تمثل دولة ذات كيان محدد وأشخاص معلومين، في تجاهل واضح لطبيعتها الحقيقية باعتبارها فكرة ملهمة لها جذور وروابط معتقدية أكثر من أنها تنظيم واضح المعالم يمكن التنبؤ بخططه وحركاته. لا تمثل مفاهيم التراب والأرض والوطن، لحركات داعش والقاعدة وإخواتهما، غير قاعدة ارتكاز وتموين وتنظيم للأعمال، حيث أن تلك المفاهيم بالنسبة لهم غير ذات قيمة معنوية أو أيديولوجية. وأكبر دليل على ذلك أن أغلبية من يقومون على أمر أرض “الدولة الإسلامية بالشام والعراق”، قيادة وقاعدة، لا ينتمون لتلك المساحة الجغرافية، بل جاءوها من مختلف دول العالم، كما أنهم مستعدون للرحيل لأي أرض أخرى إن تيسر لهم الأمر.
على ضوء كل ذلك، فإن أي معالجة لظاهرة التطرف والإرهاب الإسلاموي لا بد أن تنحو في اتجاه تضمين مكوّن فكري في الحرب عليهما. فالرهان على الحلول الأمنية والسياسية، رغم أهميتها، لن يخلق عالماً جميلاً بالتأكيد ما لم تُهزم الأيديولوجية المولّدة لتلك الظواهر. فالحرب الأيديولوجية أصبحت شيئاً محتوماً إذن، ولا سبيل لهزيمة الإرهاب غير اللجوء إليها والانتصار فيها.